هل «تركع» أوكرانيا؟
الخميس - 24 أغسطس 2023
Thu - 24 Aug 2023
في تطور لافت للخطاب السياسي الروسي تجاه الحرب في أوكرانيا، قال نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديميتري مدفيديف «إن على العدو (أوكرانيا) الركوع على ركبتيه متوسلا الرحمة»، وأضاف «دولة أوكرانيا لم تكن موجودة قبل عام 1991، فهي جزء من الإمبراطورية الروسية، كما لا بد من أخذ الحقائق الحالية في الاعتبار، وهي أن أوكرانيا في مرحلة منتصف العمر، وعاد جزء من أراضيها إلى روسيا»، وتابع: «الوسيط المستعد للاعتراف بهذه الأشياء الواضحة، لديه فرصة للنجاح وكل من يرى غير ذلك فلا فرصة أمامه»، وشدد على أنه «لا حاجة للمفاوضات الآن، وعلى العدو أن يجثو على ركبتيه متوسلا الرحمة». هذا التطور يختلف كثيرا عن الموقف الرسمي السابق القائم على الترحيب المبدئي بالمفاوضات مع أوكرانيا، وكثيرا ما أكد الرئيس بوتين نفسه أن بلاده لا ترفض الحوار من أجل حل الأزمة الأوكرانية، وأحيانا كان يقلل من فرص إجراء محادثات مجدية مع كييف، ويرى أن «الظروف غير مواتية لعملية السلام» وأن «أي تسوية يجب أن تأخذ في الاعتبار الحقائق الجديدة، وكان الكرملين يعرب دائما عن انفتاحه على المبادرات الخارجية واستعداده للانصات».
رفض الحوار كان يأتي في السابق من جانب أوكرانيا، التي عبر رئيسها زيلينسكي غير مرة عن رفضه الحوار مع الرئيس بوتين، وكان يقول «أوكرانيا مستعدة للحوار مع روسيا ولكن مع رئيس آخر»، وهو ما استدعى ردا من ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين قال فيه «سننتظر غيرك إذن».
تصريحات مدفيديف الذي تناول فيه شرط «ركوع» أو استسلامها، يعبر في جوهره عن رفض نهائي للشروط التي سبق أن وضعتها كييف والغرب معا لتحقيق السلام، ومنها انسحاب القوات الروسية من الأراضي في دونباس وشبه جزيرة القرم وزابوروجيا وخيرسون، ودفع تعويضات من جانب روسيا، والاعتراف بالمحاكم الدولية، وهي شروط سبق أن اعتبرها وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف «مجرد أوهام»، ولكنه لم يذهب إلى مطالبة أوكرانيا بالاستسلام مع تحدث مدفيديف مؤخرا.
بلاشك أن تصريح مدفيديف بشأن «ركوع» أوكرانيا هو رسالة مهمة موجهة للغرب بالأساس، ولكن الملاحظ أن إدارة روسيا للأزمة الأوكرانية قائمة نسبيا على نوع من توزيع الأدوار، ومدفيديف هنا يناط به لعب دور «الرجل الشرير»، فهو من يتبنى دوما مواقف متشددة حيال الأزمة، حيث دأب مدفيديف على إطلاق تهديدات باستخدام السلاح النووي في حرب أوكرانيا، وقال في أوائل يوليو الماضي «إن إنهاء أي حرب بسرعة ممكن عبر خيارين هما: اتفاقية سلام أو استخدام الأسلحة النووية»، مشيرا إلى استخدام الولايات المتحدة أسلحة نووية عام 1945 ضد هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين، وقبلها كان قد قال «إن صراع الفناء النووي ليس ممكنا فحسب، بل محتمل أيضا»، وفي فبراير الماضي قال مدفيديف «إذا أرادت الولايات المتحدة هزيمة روسيا، فيحق لنا الدفاع عن أنفسنا بأي سلاح، بما في ذلك السلاح النووي»، مذكرا بتصريح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال فيه «إنه من المستحيل هزيمة روسيا في ساحة المعركة».
في سبتمبر من العام الماضي، قال مدفيديف «إن أي أسلحة في ترسانة روسيا، بما في ذلك الأسلحة النووية الاستراتيجية، يمكن أن تستخدم للدفاع عن الأراضي التي ضمت لروسيا»، وقال أيضا «يجب أن أذكر مرة أخرى، أولئك الصم الذين لا يسمعون سوى أنفسهم، أن لروسيا الحق في استخدام الأسلحة النووية إذا لزم الأمر»، وكرر نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، دميتري ميدفيديف، تهديدات الرئيس فلاديمير بوتين العام الماضي، بإمكانية اللجوء للسلاح النووي إذا شعرت بلاده بالخطر، وقال ميدفيديف «إن موسكو لها الحق في الرد دون الكثير من المشاورات»، و»هذا الأمر بالتأكيد وليس خدعة».
الحديث عن حتمية «استسلام» أوكرانيا في الحرب هو تطور نوعي فارق، ويثير قدرا من التساؤل لا يقل عما أثاره حديث الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، ودعوته في كلمة مصورة وجهها لشعبه إلى «العودة إلى الواقع» فيما يخص مسألة الانتصار في «الحرب»، حيث قال زيلينسكي عبر قناته في «تلغرام»: «إذا تهيأ بالفعل لشخص ما أن الحرب هناك في مكان ما سيكون مآلها الانتصار، فإن على أحد آخر، في المقابل، العودة إلى الواقع»، فهل بدأ زيلينسكي رحلة تأهيل شعبه لقبول الواقع وعدم التمسك بفكرة استعادة الأراضي التي احتلتها روسيا بالكامل، كسبيل لضمان بقاء الدولة الأوكرانية؟ أم أن زيلينسكي يستشعر تراجع الدعم المادي والعسكري الغربي وبالتالي انحسار قدرة الجيش الأوكراني على مواصلة القتال والاضطرار لقبول تسوية سياسية مهما كانت نتائجها؟.
الأرجح أن تغير لغة الخطاب السياسي للطرفين يرتبط إلى حد كبير بتغير الواقع الميداني في ساحات القتال، أو بمعنى أدق التحول في موازين القوى، حيث فشل الهجوم الأوكراني المضاد في تحقيق الأهداف المرجوة رغم مضي أكثر من شهرين، وحيث لا تزال روسيا تحتل نحو 20% من أراضي أوكرانيا، ولا تزال تتحصن بشكل جيد يحول دون تقدم القوات الأوكرانية عدا قرى صغيرة نجحت في استعادتها خلال الفترة الأخيرة، وتشير تحليلات موثوقة إلى أن القوات الأوكرانية لم تتقدم سوى حوالي 16 كلم في منطقتين على جبهة قتالية بطول 160 كم تقريبا، ولا تزال التحصينات الروسية القوية للغاية تعرقل تقدم القوات الأوكرانية بالشكل الذي كان مخططا له، بحيث باتت الشكوك تحوم حول إمكانية تحقيق كييف لانتصار عسكري تكتيكي باستعادة أجزاء كبيرة من الأراضي التي احتلتها القوات الروسية، لاسيما أن الوقت ليس في مصلحة أوكرانيا سواء في ظل اقتراب دخول فصل الشتاء والأمطار والثلوج، أو بالنظر إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية والشكوك التي تحيط باستمرار الدعم العسكري الغربي الذي تقوده واشنطن، فضلا عن صعوبة إقناع الرأي العام الأوروبي بمواصلة تقديم الدعم لأوكرانيا في ظل صعوبة تحقيق أي إنجاز عسكري يبرر تقديم المليارات لكييف.
الموضوعية تقتضي القول بأن الغرب لن يقبل فكرة «ركوع» أوكرانيا بعد كل ما قدم لها من دعم سخي، ماديا وعسكريا، ولا أعتقد أن روسيا أيضا تفكر في ذلك كشرط حقيقي لأنهاء الحرب، فالواقع الميداني ومعطيات السياسة والاقتصاد والاستراتيجية تملي على كل طرف شروطه وترسم سيناريوهاته، ويبدو أن رحلة المساومة ولعبة «عض الأصبع» قد بدأت وعلينا انتظار إلى أين تنتهي؟.
drsalemalketbi@
رفض الحوار كان يأتي في السابق من جانب أوكرانيا، التي عبر رئيسها زيلينسكي غير مرة عن رفضه الحوار مع الرئيس بوتين، وكان يقول «أوكرانيا مستعدة للحوار مع روسيا ولكن مع رئيس آخر»، وهو ما استدعى ردا من ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين قال فيه «سننتظر غيرك إذن».
تصريحات مدفيديف الذي تناول فيه شرط «ركوع» أو استسلامها، يعبر في جوهره عن رفض نهائي للشروط التي سبق أن وضعتها كييف والغرب معا لتحقيق السلام، ومنها انسحاب القوات الروسية من الأراضي في دونباس وشبه جزيرة القرم وزابوروجيا وخيرسون، ودفع تعويضات من جانب روسيا، والاعتراف بالمحاكم الدولية، وهي شروط سبق أن اعتبرها وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف «مجرد أوهام»، ولكنه لم يذهب إلى مطالبة أوكرانيا بالاستسلام مع تحدث مدفيديف مؤخرا.
بلاشك أن تصريح مدفيديف بشأن «ركوع» أوكرانيا هو رسالة مهمة موجهة للغرب بالأساس، ولكن الملاحظ أن إدارة روسيا للأزمة الأوكرانية قائمة نسبيا على نوع من توزيع الأدوار، ومدفيديف هنا يناط به لعب دور «الرجل الشرير»، فهو من يتبنى دوما مواقف متشددة حيال الأزمة، حيث دأب مدفيديف على إطلاق تهديدات باستخدام السلاح النووي في حرب أوكرانيا، وقال في أوائل يوليو الماضي «إن إنهاء أي حرب بسرعة ممكن عبر خيارين هما: اتفاقية سلام أو استخدام الأسلحة النووية»، مشيرا إلى استخدام الولايات المتحدة أسلحة نووية عام 1945 ضد هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين، وقبلها كان قد قال «إن صراع الفناء النووي ليس ممكنا فحسب، بل محتمل أيضا»، وفي فبراير الماضي قال مدفيديف «إذا أرادت الولايات المتحدة هزيمة روسيا، فيحق لنا الدفاع عن أنفسنا بأي سلاح، بما في ذلك السلاح النووي»، مذكرا بتصريح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال فيه «إنه من المستحيل هزيمة روسيا في ساحة المعركة».
في سبتمبر من العام الماضي، قال مدفيديف «إن أي أسلحة في ترسانة روسيا، بما في ذلك الأسلحة النووية الاستراتيجية، يمكن أن تستخدم للدفاع عن الأراضي التي ضمت لروسيا»، وقال أيضا «يجب أن أذكر مرة أخرى، أولئك الصم الذين لا يسمعون سوى أنفسهم، أن لروسيا الحق في استخدام الأسلحة النووية إذا لزم الأمر»، وكرر نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، دميتري ميدفيديف، تهديدات الرئيس فلاديمير بوتين العام الماضي، بإمكانية اللجوء للسلاح النووي إذا شعرت بلاده بالخطر، وقال ميدفيديف «إن موسكو لها الحق في الرد دون الكثير من المشاورات»، و»هذا الأمر بالتأكيد وليس خدعة».
الحديث عن حتمية «استسلام» أوكرانيا في الحرب هو تطور نوعي فارق، ويثير قدرا من التساؤل لا يقل عما أثاره حديث الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، ودعوته في كلمة مصورة وجهها لشعبه إلى «العودة إلى الواقع» فيما يخص مسألة الانتصار في «الحرب»، حيث قال زيلينسكي عبر قناته في «تلغرام»: «إذا تهيأ بالفعل لشخص ما أن الحرب هناك في مكان ما سيكون مآلها الانتصار، فإن على أحد آخر، في المقابل، العودة إلى الواقع»، فهل بدأ زيلينسكي رحلة تأهيل شعبه لقبول الواقع وعدم التمسك بفكرة استعادة الأراضي التي احتلتها روسيا بالكامل، كسبيل لضمان بقاء الدولة الأوكرانية؟ أم أن زيلينسكي يستشعر تراجع الدعم المادي والعسكري الغربي وبالتالي انحسار قدرة الجيش الأوكراني على مواصلة القتال والاضطرار لقبول تسوية سياسية مهما كانت نتائجها؟.
الأرجح أن تغير لغة الخطاب السياسي للطرفين يرتبط إلى حد كبير بتغير الواقع الميداني في ساحات القتال، أو بمعنى أدق التحول في موازين القوى، حيث فشل الهجوم الأوكراني المضاد في تحقيق الأهداف المرجوة رغم مضي أكثر من شهرين، وحيث لا تزال روسيا تحتل نحو 20% من أراضي أوكرانيا، ولا تزال تتحصن بشكل جيد يحول دون تقدم القوات الأوكرانية عدا قرى صغيرة نجحت في استعادتها خلال الفترة الأخيرة، وتشير تحليلات موثوقة إلى أن القوات الأوكرانية لم تتقدم سوى حوالي 16 كلم في منطقتين على جبهة قتالية بطول 160 كم تقريبا، ولا تزال التحصينات الروسية القوية للغاية تعرقل تقدم القوات الأوكرانية بالشكل الذي كان مخططا له، بحيث باتت الشكوك تحوم حول إمكانية تحقيق كييف لانتصار عسكري تكتيكي باستعادة أجزاء كبيرة من الأراضي التي احتلتها القوات الروسية، لاسيما أن الوقت ليس في مصلحة أوكرانيا سواء في ظل اقتراب دخول فصل الشتاء والأمطار والثلوج، أو بالنظر إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية والشكوك التي تحيط باستمرار الدعم العسكري الغربي الذي تقوده واشنطن، فضلا عن صعوبة إقناع الرأي العام الأوروبي بمواصلة تقديم الدعم لأوكرانيا في ظل صعوبة تحقيق أي إنجاز عسكري يبرر تقديم المليارات لكييف.
الموضوعية تقتضي القول بأن الغرب لن يقبل فكرة «ركوع» أوكرانيا بعد كل ما قدم لها من دعم سخي، ماديا وعسكريا، ولا أعتقد أن روسيا أيضا تفكر في ذلك كشرط حقيقي لأنهاء الحرب، فالواقع الميداني ومعطيات السياسة والاقتصاد والاستراتيجية تملي على كل طرف شروطه وترسم سيناريوهاته، ويبدو أن رحلة المساومة ولعبة «عض الأصبع» قد بدأت وعلينا انتظار إلى أين تنتهي؟.
drsalemalketbi@