علي قطب

صلاح جاهين.. فزورة دعم الروح

الأربعاء - 23 أغسطس 2023

Wed - 23 Aug 2023

كل إبداع حقيقي يخاطب الروح الجمعية والفردية وينطلق من لحظة تاريخية اجتماعية إلى آفاق مستقبلية بعيدة حاملا معه مكونات الجذور، أو الإمكانات التي تختزنها بذرة الشعور وهذا ما توفر لصلاح جاهين الذين سيظل فزورة في الحياة الثقافية المصرية دائما؛ لأنه كان يصل إلى حل بسيط لمعادلة صعبة وهي كيف يحقق التوازن بين الفكر التقدمي بكل ما فيه من من تجريد وتجديد، وفي الوقت نفسه يستطيع أن يتوجه إلى الذوق الجمعي المحافظ بتقاليده وبساطته وحرصه على الثبات بدرجة كبيرة.

صيغة صلاح جاهين أو خلطته السحرية التمسها من المطبخ الشعبي وأقصد بذلك الهوية الجمعية التي تستقبل الفكاهة وفي الوقت نفسه تعيش في حالة من الشجن وتحاول إثبات وجودها بحل الأسئلة المطروحة عليها من اللحظة اليومية، وفي هذه الناحية تقوم النسوية بدور كبير في تشكيل الوجدان الجمعي والتعبير عنه والانطلاق به، هنا مطبخ صلاح جاهين الذي أفاد من النسوية والروح الجمعية وبساطة العمق في تحريك الوجدان الشعبي فكانت أعماله كبسولات لتطعيم الروح الشعبية بمصل أخذه منها، يظهر ذلك في أعمال تبدو بسيطة مثل "أنا هنا يا ابن الحلال"، تلك الأغنية التي رسم فيها ملامح البنت المصرية عبر التاريخ واحتفظ لها بشخصية واقعية من البيئة وفي الوقت نفسه أطلقها في عالم الرمز لتصبح صوتا للوطن نفسه في لحظة تاريخية حلم فيها صلاح جاهين بفروسية تعبر الحواجز العالمية في سباق الحضارة.

وإذا نظرنا إلى بعض أعماله الجماهيرية في السينما سنجد دعوته للتعلم بخاصة تعليم المرأة لتصل لأعلى درجة في "زوزو" و"المتوحشة" معتمدا على نجومية سعاد حسني وطاقتها التعبيرية الفطرية، كذلك تمثيل المرأة لتضحية الوطن في شفيقة ومتولي أو حق الاختيار العاطفي للمرأة العاملة في أميرة حبي أنا الذي شارك جاهين في إعداده عن إحدى صور المرايا لنجيب محفوظ، ووصل صلاح جاهين في التعبير عن قضايا المرأة لدرجة وضعتها في مصاف المقارنة مع الرجل بشكل تنافسي واضح في دراما "هو وهي"، وهذا التمثيل الجمالي للقضايا المجتمعية والإنسانية انصب في دراما تمنح البعد النسوي حرية ومسؤولية ورمزية في في حمل الأفكار التي تؤرق جاهين، وفي الوقت نفسه يصل بها إلى المتلقي البسيط الذي يستمتع بطقس الفرجة، وهذا الطقس أجاده صلاح جاهين بشكل خاص في مسرح العرائس الذي وضع فيه الليلة الكبيرة لتخاطب الأطفال بمستوى يناسبهم ويظل فيها مخزونه الفكري الذي يحمل كثيرا من المعاني الكبرى.

وأهم ما قام به صلاح جاهين في التعبير عن الروح الجمعية ودعمها بكبسولات تاريخية جمالية هي الفوازير التي أفاد فيها من الرؤية الإخراجية لفهمي عبد الحميد وإمكانات نيللي الاستعراضية، فجاهين يصل في نجاح التواصل بينهم وبين المتلقي الجمعي عن طريق جماليات الحضور النسوي، وهناك نموذجان للفوازير بين جاهين ونيللي هما عروستي والخاطبة، تعبر الفوازير في "عروستي" عن جمال الأشياء أو شعرية العالم، والعلاقة بين الإنسان وتلك الجمادات الصغيرة التي تحيط به وتمثل بالنسبة إليه أدوات حياة تقيم بينها وبينه خطابا وعلاقة روحية وعملية، وفي الوقت نفسه هي لعبة طفولية يؤديها الأطفال في المدارس في مرحلة مبكرة من حياتهم، ومن خلالها يستعيد صلاح جاهين طفولته الدائمة فهو ذاك الطفل المتوهج الفضولي الخجول الذي يبحث في عيون الآخرين عن كلمة تشجيع تثبت له نجاحه وانتماءه إليهم، إلى هؤلاء الذين يصنعون العالم، فكان صلاح في حاجة دائمة إلى ذلك الراعي الروحي الذي يمنحه الإحساس بقيمة ما يفعل، ولم يجد هذا في الأشخاص، إنما وجد ذاك العراب في الروح المحلية أو الناس بشكل عام.

أما العمل الأكثر أهمية فهو فوازير "الخاطبة" لأن صلاح جاهين أمسك بفكرة شعبية تمثلها شخصية من ميراث المجتمع وواقعه، ووضع أفكاره وتصوراته ورؤيته التي تهتم بالإنسان البسيط وقيمة العمل الذي يؤديه والارتباط العاطفي في شكل تكوين يطرح تساؤلا عن الإنسان صاحب المهنة الذي يتقدم للخطبة، وهذه المهنة لها دورها في دراما الحياة فهي تؤكد قيم التواصل والبناء والاحتياج للآخر، هذه القيم مهمة في تفكير جاهين الذي ينحو إلى وضع الشخصية الاجتماعية في دور البطولة لأنها هي التي تنجز العالم الحقيقي للأسرة الإنسانية، ففوازير الخاطبة تعبر عن الروح الشعبية المصرية من خلال مجموعة ثلاثين صورة درامية، وكل صورة مكونة من جزأين، بالإضافة إلى الرباعية التي تتوسط هذين الجزأين مع ما قام به فهمي عبد الحميد من تكوين فني بالرسوم المتحركة.

استثمر صلاح جاهين فوازير الخاطبة ليقدم ثلاثين مهنة يمارسها الشباب الباحث عن التكامل العاطفي والاجتماعي في فترة كان الارتباط صعبا نتيجة الظروف الاقتصادية في مطلع الثمانينيات التي عبر عنها فيلم محفوظ وعاطف الطيب "الحب فوق هضبة الهرم" بعد ذلك، صلاح جاهين على العكس من أصحاب الرؤية البرجوازية التي وجدت في صعود المهنيين البسطاء إزاحة للطبقة المتوسطة، وهذا غير صحيح في مجمله لأن المجتمع الحقيقي في حاجة للمهني الذي يصلح شئون المنزل والشارع والمؤسسة، والاحتياج إليه ضروري، هنا كرس جاهين أهمية أصحاب الطوائف المهنية الاجتماعية وكأنه يستلهم من فعله سيد درويش أغنياته سابقا، ويستكمل فكرة الفوازير التي مارسها أستاذه بيرم التونسي.

إن سلاسة جاهين التي طوعت جماليات الفن لاستقبال حمولة فكرية رصينة وقوية لا تتوفر لغيره الذين يمكن أن تميزهم سمات أخرى من أصحاب الفوازير كعبد الرحمن شوقي بروحه التهكمية البديهية وعبد السلام أمين بعباراته الإنشائية المجازية ويوسف عوف بالجانب الدرامي الفكاهي، لكن العمق الفكري الذي بثه صلاح جاهين في جماليات شكل تعبيري شعبي هو الفزورة، لا يخفى على الناقد الذي يعلم المرجعية الفكرية لصلاح جاهين وكيف ينظر إلى العالم وإلى الوطن وإلى المتلقي وكيف يضع في كبسولات فنية صغيرة ما يدعم الروح الجمعية ويرقى بها ويخاطبها بلغتها ومن داخلها، وهذا ما فطر إليه نجيب محفوظ حينما جعل صلاح جاهين الشاعر النبيل إحدى شخصيات روايته قشتمر.