علي المطوع

القلم التقدمي والكتابة الرجعية

الأحد - 20 أغسطس 2023

Sun - 20 Aug 2023

النصف الثاني من القرن العشرين، الإبداع الكتابي يعيش حالة من الانتكاسة، فالكتابة لم تعد تجدي نفعا، ولم تعد تلك الوسيلة التي تنعم على صاحبها تلك الهالة القديمة، يبدو أن القلم يريد أن يكسر قواعد الكتابة، ليكتب ما يريده بعيدا عن سلطة الكتابة التي كانت وما زالت لها قوانينها ودساتيرها وأعرافها وتقاليدها.

هأنذا يصرخ القلم ليعلن للمرحلة أنه في مرحلة جار الكتابة، يأتمر بذاته، متسلحا بخبراته، منطلقا في فضاءات جديدة من الرحابة والخيال، تاركا الواقع المأزوم في الكتابة، للكتابة وأساطينها وبعض أساطيرها، الذين ما زالوا يركضون على الورق دون جدوى، ودون استراحة تتيح لهم لملمة أنفاسهم للتدبر والتأمل في الكتابة ذاتها، وأبعادها المختلفة كحرفة عند القارئ والمقروء.

القلم ينقلب على الكتابة ودساتيرها في انقلاب أسود، معلنا نفسه وصيا على عرشها بعد أن كون مجلس وصاية يكون فيه المقرر والمنفذ والوصي.

الكتابة تعلن تمسكها بالشرعية ورفضها للقلم واستئثاره بالمشهد الكتابي، كونه مجرد أداة يجب أن تعود إلى ثكنتها وليس له الحق في تغيير قوانين الكتابة وكتابها.

مجلس الوصاية يجتمع ويقرر نزع الشرعية عن الكتابة وتحويلها لمحكمة التاريخ كونها ماضيا يمضي إلى حتفه في سنة كونية لا مفر منها.

الكلمات والتعابير والكتب تنزل إلى الساحات القرائية معلنة دعمها للكتابة، ورفضها انقلاب القلم الذي يعد انقلابا على دستور الإبداع القديم الذي ورثته الكتابة كاتبا عن كاتب!.

مجمع اللغة العربية يعلن جلسة طارئة لمناقشة واقع الكتابة المأزوم، والقلم يعتبر ذلك تدخلا سافرا في سيادته ومناطق تأثيره الإبداعية.

لا مفر؛ المجمع يجتمع والجلسة تبدأ بتلاوة مشروع قرار يستنكر فعل القلم، الكتابة وكتابها وكتبهم يصوتون بالإجماع على بيان المجمع المستنكر لتصرفات القلم، والفوضى الإبداعية تعم الورق، والجميع يحبس أنفاسه خوفا من تطورات الوضع وخروجه عن السيطرة.

القلم يعلن وبين أتباعه تأميم الكتابة كشركة مساهمة عالمية ويدعو الجميع للاكتتاب في هذه الشركة كونها ستكون رافدا يدعم الإبداع والعاملين عليه، ويعلن على الملأ أن عصرا جديدا قد بدأ وأن لا عودة للكتابة بأسلوبها الفج والرجعي.

الكلمات والتعابير الشوارعية تنتشي وتعلن دعمها لهذا القرار السيادي غير المسبوق وتؤكد أن القلم هو سيد الموقف وهو عراب التغيير في هذه المرحلة.

يعلن القلم مشاريعه التقدمية القادمة ويؤكد نيته تصديرها للمدارس القديمة المجاورة والتي يراها رجعية في أسلوبها وطريقة تعاطيها مع الإبداع، وأن عصرا كتابيا ينبغي أن يسود كيف لا وهو عراب المرحلة وقائدها الهمام.

تبدأ فصول جديدة من الحرف الكتابية وتكون وفق سيادة القلم ومفاهيمه الفكرية، الجميع يكتب ولكن كما يريد القلم والجميع يعرف أن المرحلة لا تحتمل رأيا مخالفا يناقض فكر القلم التقدمي وتوجهاته.

تزداد مساحات تأثير القلم ويصبح ظاهرة صوتية غير مسبوقة، وتصبح خطاباته الكتابية مرجعا للصغار، الذين رؤوا في تلك الخطابات متنفسا من براثن الكتابة العتيقة وأسلوبها الرجعي والقديم.

المداد بلونه الأسود ينتصر للقلم ويرى فيه بعثا جديدا للكتابة كيف لا وهو يمثل ضمير أمة واحدة ذات رسالة خالدة!

عصبة الوراقين تجتمع من جديد لاستصدار قرار كتابي يعيد القلم إلى قواعده منكسرا ويحفظ للكتابة والورق حقهما في تقرير المصير، فهما عضوان فاعلان في هذه العصبة الهشة كيف لا وهي من ورق!

أمين هذه العصبة يعرب عن قلقه المستمر من نزوات القلم، ويعده بالويل والثبور وعظائم الأمور إن هو استمر في غيه وغواياته!

في الناحية الأخرى من المشهد الأهم، إسرائيل تشن عدوانا جديدا على أمة الورق، وفي ست ساعات تسيطر على فضاءات الكتابة وأجوائها، وفي ستة أيام فقط تسيطر على صفحات جديدة من التاريخ، وتبدأ في كتابة ملحمة حرب الأيام الستة التي مكنتها من احتلال أراض عربية جديدة شملت الجولان وسيناء وغزة والضفة الغربية.

أما القلم فقد أعلن تنحيه عن السلطة واعتذاره لأمته عن كل حسنات وسيئات بنى عليها موقفه خلال الأزمة، لم تمهله الجماهير الورقية، فقد اكتظت الشوارع بالهتافات والشعارات قائلة: (أحا أحا لا تتنحى)، وهنا كان وما زال مكمن الغرابة؛ شرذمة منتصرة تبكي قتلاها، وأمة مهزومة تتمسك بقلم كسرته التجارب مرتين، مرة عندما كتب وأخرى عندما هدد العدو بالكتابة فكانت نكسته!

alaseery2@