بسمة السيوفي

بضاعة الجهلة

الثلاثاء - 08 أغسطس 2023

Tue - 08 Aug 2023

مقال اليوم عن ذاك الذي يُفعل بأنواعه ليصرف الشيء عن حقيقته، فيتخيل المرء أسبابا وهي في لبّها تمويه وخداع، ويصدق الجهلة قدرة هؤلاء على الأذى أو المنع والحماية عبر ممارسات تختلق ما يشبه الحقيقة سعيا لتغيير الواقع غير المرضي عنه.

شخصيا كنت غائبة عن هذا العالم لكني رأيته بالعين ذات مرة عندما كنت في بداية حياتي الوظيفية، أثناء فترة الامتحانات النهائية دخلوا غرفة الإشراف الإداري حاملين طالبة أصابها الإغماء لسبب لا نعلمه، بنت في العشرينات نحيفة الجسد باهتة اللون تتقطر عرقا.. أنفاس متسارعة والبؤبؤ يتحرك بشكل عنيف تحت الجفن المغمض.. مددوها على الأرض واضعين تحت رقبتها متكأ لينا، عندما تكون لا تطيق رؤية شخص يذوي ضعفا أمامك فإنك تقترب لتغيث.. وضعت قطرات من الماء على رأسها ومسحت جبينها وابتعدت قليلا، كنت أرقيها بصوت منخفض: بسم الله الرحمن الرحيم.. بسم الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء.. أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ.. وهي بين الحينة والفينة تنتفض وتنازع كمن أصابه تيار كهربائي.. كنا ننتظر جميعا الإسعاف، لذا وقفت بحذر في زاوية الغرفة ومازال لساني يكرر الآيات والأدعية.. فتحت عينيها على حين غرة وأدارت رأسها باتجاهي.. مخترقة روحي بعينيها.. صرخت تنهرني بصوت خشن يشبه صوت عجوز كان يدخن لخمسين سنة: «اسكتي.. اسكتي.. وبعدين معاك».. ثم أغلقت عينيها.

وأطرق كل من بالغرفة سكوتا حطته المباغتة من عل... وأنا بين الاستنكار والانكار أحاول التخلي عن الرهبة ومحاولة تفسير ما لا يفسر.. وتجمدت في مكاني إلى أن أخذها المسعفون.

عرفت لاحقا عن التلبس والمس وعن الهالة المريبة للسحر، واختلاط العقلاني باللاعقلاني، الحقيقي بالمتخيل، وقرأت كثيرا عن الأمراض النفسية والتوهم واضطراب الشخصية.. ووصلت إلى اليقين الجازم «إن الله سيبطله»، وأنهم ليسوا «بضارين به من أحد إلا بإذن الله».

تقف الأديان عامة ضد تلك المعتقدات وهناك حد فاصل بين الدين والسحر وبين الدين والعلم، إلا أن هناك تأثرا وتأثيرا بين الأديان وبين ما سبقها من أفكار وممارسات زاولتها الشعوب. فقد كان بعض العرب يطوفون عرايا حول الكعبة للتطهر من الذنوب ظنا منهم أنها عالقة بملابسهم.

وكانوا يعتقدون بالكهانة والعرافة والتمائم والنجوم، فكان من علومهم قيافة الأثر والرمّالين، وزجر الطير وخط الرمل. وكان المسلمون بعدها يعتقدون، شأنهم شأن الأوروبيين آنذاك، أن في علوم الكيمياء قدر كبير من السحر. كانت البيئة والثقافة السائدة تحدد معتقدات وممارسات الشعوب، إلا أن ثقافة السحر من أقل الأنساق تأثرا بالتغيير وأقلها استجابة للمتغيرات المجتمعية بسبب تجذر المعتقد، التدعيم المتواصل، الثقافة السائدة، والتنشئة الاجتماعية.

الملاحظ في الآونة الأخيرة أن الوعي الجمعي للناس يؤمن بفكرة سطوة السحرة أكثر مما يؤمن بمشيئة الله وقدرته.

كلنا لا ينفي وجود السحر، وأن له حقيقة وتأثيرا، فقد وردت كلمة السحر مع مشتقاتها في القرآن الكريم 63 مرة.

المشكلة هي أن يصبح السحر بكل أنواعه السبب الوحيد والتفسير الأكيد لتعثر الحال أو المرض، أو تأخر الإنجاب، أو إعراض الحبيب.. وهو أمر غير منطقي وغير مقبول.

السؤال هنا: من الذي يقف خلف هذا التزايد في الانتشار والاعتقاد وأنه لا حلول دنيوية إلا باللجوء إلى هذا العالم؟ هناك دول بأسمائها يعتبرونها منبعا للسحرة والحواة وقارئي البلورات.

وفي إعلانات القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت لفك السحر والملبوس، استنطاق العارض، جلب الغائب، استنزال المال بالزئبق الأحمر... إلى آخره.

هل لانتشار هذه المعتقدات علاقة نسبية مع الجهل والفقر وآخر الزمان؟

اطلعت على دراسة سیكولوجیة بعنوان «وهم الإصابة بالعین والسحر والهروب من الواقع»، للدكتورة صباح الرفاعي، وأظهرت النتائج أن التحاسد والحقد والعداوة بین الأفراد هي السبب الأول، بينما جاء الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية تاليا.

ما لفت نظري في النتائج هو عدم وجود علاقة ارتباطیة بین المتغیرات الدیموغرافیة (السن، المستوى التعلیمي والاقتصادي) وبين الاعتقاد في السحر.

أي أنه لا وجود لفرق بين المتعلمين وأعمارهم وحالتهم المادية في الاعتقاد. وهو إشارة إلى أن اللاجئين إلى السحر ليسوا من النساء فقط أو من «الطبقات الأمية أو متوسطة التعليم، بل إن أغلبهم من طبقة المثقفين والمؤثرين في مجتمعاتهم، في محاولة منهم لإشباع الفراغ الروحي، وللاطمئنان على المستقبل».

ويزداد الاعتقاد عندما يعجز الإنسان ويرغب في السيطرة حيث يُبنى الاعتقاد بالسحر على ثلاثة عوامل أساسية: أولها الصفات الفردية التي تؤهل للاعتقاد بالسحر، والثاني نوع المشكلات والتحديات، والثالث الاعتقاد بقوة السحر وفعاليته في الحياة الاجتماعية بالقدر الذي يجعل ممارسة السحر مقبولة اجتماعيا.

كيف نجابه السحر.. خاصة أن الناس تجهل الغيبيات وترغب في تعليل بواعثها.. ونحن من يصنع الظروف في الأغلب وإن سيرتنا الأقدار فنحن أيضا من يختار كيفية التعامل معها.. علينا بسد منافذ الغفلة والوهم والعين، والتحرز من كل شر.. مع الاستعانة بالكتمان على قضاء الحوائج واليقين بأن مشيئة المخلوق لن تجري أبدا فوق مشيئة الخالق. ولنا في مقال آخر البيان.

لازلت أتذكر هاتين العينين.. والصوت الأجش الذي خاطبني «وبعدين معاكِ.. وبعدين معاكِ»... ولا زلت أردد الآيات والأدعية.. والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.

smileofswords@