‎نوف البنيان

الآباء لا يموتون

الاحد - 06 أغسطس 2023

Sun - 06 Aug 2023

وقفت حائرة أمام هذه الورقة، ماذا سأكتب عنك يا أبي؟ وهل ستفي حروفي وصفك؟ وكيف لي أن ألملم أشتاتي المبعثرة، ففؤادي يا أبي فارغ بعد رحيلك، كفؤاد أم موسى يشتكي الوجد.

تركتني وأنا أعتلي سلم الحياة بكل ثقة. بقرع ثابت أصله في السماء لا ينحني إلا لله. ولا تكسره رياح الزمن. شامخة راسية كالجبال. بقيم ومبادئ غرستها في قلبي وعقلي. كيف لي أن أقول "مات أبي"؟ وأنا أحمل كل هذا الخير المتشعب في جذوري، رحمة وحبا وعطاء واحتراما وصدقا وأمانة. بذور قد غرستها في أعماقي.

أيقنت بعدك أن (الآباء لا يموتون)، يشهد بذلك الأثر الذي يتركونه في جوف قلوبنا، وفي جيوب ذاكرتنا، وفي أركان بيوتنا.

مع صرخة الميلاد أهدونا أسماءهم ووهبونا حبهم وحنانهم، وحينما كنا صغارا حملونا على أكتافهم لنعبر طرق الحياة. كبرنا ولم ينقطع عطاؤهم، فقد حملوا همومنا على الأكتاف نفسها.

أقول ما قال نزار قباني مستنكرا في قصيدته:

أماتَ أَبوك؟ فكان جوابه ينشد الأثر الذي تركه في روحه:

ضَلالٌ! أنا لا يموتُ أبي

ففي البيت منه روائحُ ربٍّ.. وذكرى نَبي

هُنَا رُكْنُهُ.. تلكَ أشياؤهُ

تَفَتَّقُ عن ألف غُصْنٍ صبي

جريدتُه، مُتَّكَاهُ كأنَّ أبي – بَعْدُ – لم يّذْهَبِ.

نعم رب الأسرة أبي. وعلى سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربانا أبي، ومن حدائق الورد والريحان سقانا الشهد أبي.

تسكن كلماته مسامعي. فكم من القصص رواها لا تجاوز موقف أو حزن ألمَّ بي. يسليني ويضحكني لئلا يسكن الألم قلبي. لئلا تغفو أجفاني على ألم.

أتذكر يا أبي؟ قصة الدنيا والحظ، وضاع الإنصاف، ويا عالم ما يكون قبل أن يكون. تركت خلفك قاموسا من الحكم والعبر التي لا تنسى. كيف لي أن أقول: "مات أبي"؟.

قال العلامة السعدي (رحمه الله): صلاح الوالدين بالعلم والعمل من أعظم الأسباب لصلاح أولادهم. صالحا مثقفا كان أبي.

وكانت أُمامةُ بنتُ زينب، حفيدة رسول الله محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ على كتفه يحملها وهو يصلي بالناس إذا قام، وإذا سجد وضعها على الأرض، وإذا قام أخذها. ويفعل بها ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من صلاته. رحمة تشبه قلب أبي.

وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير: أن أباه أتى به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلَّ ولدك نحلت مثل هذا؟ فقال: لا، فقال: أرجعه، وفي رواية لمسلم فقال: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، قال: فرجع أبي في تلك الصدقة. وكان السلف يستحبون أن يعدلوا بين الأولاد في القبلة. عادلا منصفا كان أبي.

وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: الصبي يُذكر له أن الدنيا كلها لا بقاء لها، وأن الموت يقطع نعيمها، وأنها دار ممر لا دار مقر، وأن الآخرة دار مقر لا دار ممر، وأن الموت منتظر في كل ساعة، وأن الكيّس العاقل من تزود من الدنيا للآخرة، حتى تعظم درجته عند الله تعالى". بهذه الكلمات ختم لقاءه بنا أبي.

أيها الآباء كونوا لأبنائكم الروح التي لا تموت. احملوهم بعطف، وأدبوهم بلطف، وانصحوهم بحكمة وأنفقوا عليهم بإحسان.

ولمن لازال آباؤهم على قيد الحياة، كونوا لهم المصابيح المضيئة في دلج الليل، والظلال الوارفة في وضح النهار، أشبعوهم حبا وعطفا وعطاء. وارفعوا أسماءهم على رفوف العلم والأخلاق الحميدة، وتذكروا أن الآباء لا يموتون وأبناؤهم على قيد الحياة.

فيامن لديك أبٌ أهملت طاعته

لا تنتظر طاعة إن صرت أنت أبا

فالبر قرضٌ إذا أقرضته لأبٍ

يوفيكهُ ولدٌ والبر ما ذهبا

لا تنتظر موته صِل في الحياة أباً

لا ينفع الدمعُ فوق القبر إن سُكبا