ألم نجعل له عينين؟
السبت - 05 أغسطس 2023
Sat - 05 Aug 2023
في حديث سابق للمستشار أحمد باديب مع الإعلامي مالك الروقي لبرنامج السطر الأوسط قال حكمة أراها جديرة بالتأمل، بل والوقوف عندها مليا، ولا سيما في الوقت الراهن الذي أتاحت التقنية فيه لكل أحد أن يقول ما يشاء، وقت يشاء، في أي موضوع يشاء.
ولعمري، فذلك هو عين الفوضى التي لا تسمن ولا تغني حين لا مناص، وهو مؤدّ نظام التفاهة وفقا لرأي ألان دونو.
في ذلك اللقاء المهم، ختم الأستاذ باديب حديثه بقوله: إن الله خلق الإنسان بأذنين اثنين ليصغي ويسمع بهدوء، وخلق له عينين اثنتين ليبصر ويتأمل بعقل، وخلق له فما واحدا لينطق بعد ذلك، وقد أعطى لعقله الفرصة ليحلل ما سمعه، ويتدبر ما رآه، ثم يستوعب المراد وما خفي منه، ليقول بعد ذلك كلمته التي تكون منجية له في الدارين، إن أحسن الاصغاء والتأمل، وامتلك ناصية التدبر.
حقا ما قال، وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حين قال لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ في حديث طويل جاء في نهايته: «كُفَّ عليك هذا (وأشار إلى اللسان)، قلت (أي معاذ): يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم».
على أن الكلمة من حيث دلالتها ومؤداها لم تكن بسيطة في حكم الله، الذي أبان في محكم التنزيل خطورة ذلك وعقابه لمن خاض مستهزئا لاعبا، وحذر منها نبينا عليه الصلاة والسلام بقوله: «إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها في النار سبعين خريفا».
وقالت العرب فيما قالت: رب كلمة قالت لصاحبها دعني.
كل ذلك وغيره قد صب في خانة واحدة، وهي أن يحافظ المرء على هدوئه حين اضطراره للحديث أو الكتابة في أمر ما، وأن يتعلم قواعد الإصغاء وتدبر ما يُقال، وألا يهرف بما لا يعرف.
وللأسف، فما نشاهده في الواقع غير ذلك، حيث اختلط الحابل بالنابل، وصار الكل يتكلم بما يشاء، في أي موضوع يشاء، غير عابئ بقواعد المعرفة الأصيلة، ومنهجية البحث العلمي التي يجب الأخذ بها، ولا سيما في القضايا الدينية الكبرى، كموضوع الحج على سبيل المثال لا الحصر.
على أن الأخطر حين يعمد أحدهم وهو من عوام الناس، إلى تبني آراء دينية معاصرة، من شخص ليس له علاقة بكل علوم الآلة والمنطق، ناهيك عن علوم أصول الدين والفقه وغيرها، لمجرد أنها وافقت فهمه، وتلامست مع هواه، ثم يأخذ في النطق بها وكأنها من بنات أفكاره، مدعيا منطقا ليس منطقه، وفكرا ليس فكره، ومتبنيا منهجا لا يعرف منشأه ومؤداه، وهذا والله هو عين الجهل المهلك لصاحبه.
وما أكثر هؤلاء اليوم في واقنا المعاش، خاصة على وسائل التواصل المجتمعي.
في هذا السياق، أشير إلى أن واحدا من أكبر طوام السوشل ميديا كما يقال، هو أنها قد فتحت الباب لكل أحد ليتحدث بما يريد، وتلك هي البداية لولادة ما يمكن تسميته بالغرور المعرفي، حتى إذا ولج في غروره قام باستنساخ ما يتوافق مع هواه مما قرأه هنا وهناك، ظنا أنه واع بها، ليقوم بنشرها في مجموعات (واتس أب)، وفي غيرها من وسائط التواصل المجتمعي وكأنها من وحي تفكيره.
وهكذا يتخيل نفسه وقد أصبح من زمرة المثقفين، ثم تراه يطمح ليؤلف كتابا خاويا في مضمونه، بسيطا في محتواه، والأخطر حين تتولى جهات النصب المعرفي احتضانه مقابل مال، فتعمد إلى تأليف كتاب باسمه، ليقوم هو بدفع التكاليف المقررة، ليجد نفسه وقد أصبح من جمهرة الكتاب، وبعضهم يستأنس للأمر فيطبع لنفسه كتابا في كل سنة بالسياق والنسق كليهما، ثم تراه ينافس بقوة ليحصد ما جناه على منصة التوقيع في معرض الكتاب الذي ليس ببعيد عنا.
أليس ما نشهده يعد خواء معرفيا قائما على جهل الإنسان بحقيقة نفسه؟، حتما هو كذلك، وإن كانت الساحة لا تزال تنضخ بالكتاب المبدعين، والمثقفين الحقيقيين، والأشخاص المهمومين بالمعرفة، الذين آثروا الصمت في وقت الضجيج، إدراكا منهم لقوله تعالى: «ألم نجعل له عينين (8) ولسانا وشفتين (9) وهديناه النجدين»، فطوبى لهؤلاء ابتداء وانتهاء.
zash113@
ولعمري، فذلك هو عين الفوضى التي لا تسمن ولا تغني حين لا مناص، وهو مؤدّ نظام التفاهة وفقا لرأي ألان دونو.
في ذلك اللقاء المهم، ختم الأستاذ باديب حديثه بقوله: إن الله خلق الإنسان بأذنين اثنين ليصغي ويسمع بهدوء، وخلق له عينين اثنتين ليبصر ويتأمل بعقل، وخلق له فما واحدا لينطق بعد ذلك، وقد أعطى لعقله الفرصة ليحلل ما سمعه، ويتدبر ما رآه، ثم يستوعب المراد وما خفي منه، ليقول بعد ذلك كلمته التي تكون منجية له في الدارين، إن أحسن الاصغاء والتأمل، وامتلك ناصية التدبر.
حقا ما قال، وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حين قال لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ في حديث طويل جاء في نهايته: «كُفَّ عليك هذا (وأشار إلى اللسان)، قلت (أي معاذ): يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم».
على أن الكلمة من حيث دلالتها ومؤداها لم تكن بسيطة في حكم الله، الذي أبان في محكم التنزيل خطورة ذلك وعقابه لمن خاض مستهزئا لاعبا، وحذر منها نبينا عليه الصلاة والسلام بقوله: «إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها في النار سبعين خريفا».
وقالت العرب فيما قالت: رب كلمة قالت لصاحبها دعني.
كل ذلك وغيره قد صب في خانة واحدة، وهي أن يحافظ المرء على هدوئه حين اضطراره للحديث أو الكتابة في أمر ما، وأن يتعلم قواعد الإصغاء وتدبر ما يُقال، وألا يهرف بما لا يعرف.
وللأسف، فما نشاهده في الواقع غير ذلك، حيث اختلط الحابل بالنابل، وصار الكل يتكلم بما يشاء، في أي موضوع يشاء، غير عابئ بقواعد المعرفة الأصيلة، ومنهجية البحث العلمي التي يجب الأخذ بها، ولا سيما في القضايا الدينية الكبرى، كموضوع الحج على سبيل المثال لا الحصر.
على أن الأخطر حين يعمد أحدهم وهو من عوام الناس، إلى تبني آراء دينية معاصرة، من شخص ليس له علاقة بكل علوم الآلة والمنطق، ناهيك عن علوم أصول الدين والفقه وغيرها، لمجرد أنها وافقت فهمه، وتلامست مع هواه، ثم يأخذ في النطق بها وكأنها من بنات أفكاره، مدعيا منطقا ليس منطقه، وفكرا ليس فكره، ومتبنيا منهجا لا يعرف منشأه ومؤداه، وهذا والله هو عين الجهل المهلك لصاحبه.
وما أكثر هؤلاء اليوم في واقنا المعاش، خاصة على وسائل التواصل المجتمعي.
في هذا السياق، أشير إلى أن واحدا من أكبر طوام السوشل ميديا كما يقال، هو أنها قد فتحت الباب لكل أحد ليتحدث بما يريد، وتلك هي البداية لولادة ما يمكن تسميته بالغرور المعرفي، حتى إذا ولج في غروره قام باستنساخ ما يتوافق مع هواه مما قرأه هنا وهناك، ظنا أنه واع بها، ليقوم بنشرها في مجموعات (واتس أب)، وفي غيرها من وسائط التواصل المجتمعي وكأنها من وحي تفكيره.
وهكذا يتخيل نفسه وقد أصبح من زمرة المثقفين، ثم تراه يطمح ليؤلف كتابا خاويا في مضمونه، بسيطا في محتواه، والأخطر حين تتولى جهات النصب المعرفي احتضانه مقابل مال، فتعمد إلى تأليف كتاب باسمه، ليقوم هو بدفع التكاليف المقررة، ليجد نفسه وقد أصبح من جمهرة الكتاب، وبعضهم يستأنس للأمر فيطبع لنفسه كتابا في كل سنة بالسياق والنسق كليهما، ثم تراه ينافس بقوة ليحصد ما جناه على منصة التوقيع في معرض الكتاب الذي ليس ببعيد عنا.
أليس ما نشهده يعد خواء معرفيا قائما على جهل الإنسان بحقيقة نفسه؟، حتما هو كذلك، وإن كانت الساحة لا تزال تنضخ بالكتاب المبدعين، والمثقفين الحقيقيين، والأشخاص المهمومين بالمعرفة، الذين آثروا الصمت في وقت الضجيج، إدراكا منهم لقوله تعالى: «ألم نجعل له عينين (8) ولسانا وشفتين (9) وهديناه النجدين»، فطوبى لهؤلاء ابتداء وانتهاء.
zash113@