محمد سعود المسعود

أبقى قارون فينا ذريته!

الثلاثاء - 01 أغسطس 2023

Tue - 01 Aug 2023

روى القرآن الكريم قصة قارون رجلا بلا قيمة حقيقية في ذاته، وكان هو يراها كذلك دائما، مما أحوجه إلى بذل الكثير من المال من أجل توفير حمالين أقوياء وحراس أشداء للقيام بمهمة شاقة وعسيرة وباهظة التكاليف وهي حمل ثروته إلى الشوارع والأسواق للتباهي بها (فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم).

دائما ما يطل على الناس بقية من ذرية قارون يعرض عليهم قيمة مقتنياته متباهيا متعاليا بسببها، فيشير إلى ساعته ويتباهى بثمنها، ثم ثوبه وثمنه، ثم يتوالى التباهي بقيمة كل قطعة يرتديها! وغيره يتباهون عبر التصوير المستدام لكل ما هو صالح للتفاخر به، وما ينبئ عن غنى، ويشي بثروة أو قدرة.

لنعلم جميعا أن لقارون ذرية باقية حتى قيام الساعة وإن تعاقب عليهم عقوبة الخزي في الدنيا وزوال النعمة وسلبها منهم كعقوبة معجلة لفعل يصفه الله تعالى بالفساد في الأرض.

القارونية هي أن يجعل للإنسان قيمة معيارية للتفاضل خارج ذاته وهو المال وجعله الوحدة المعيارية الوحيدة للتفاضل في الجنس البشري وهي الفلسفة ذاتها القائمة الآن في أوروبا وأمريكا، المال هو القيمة الحقيقية للنجاح وهو يبرر كل مقدماته، وأن النجاح والفقر لا يجتمعان في تصورهم وأن حياة الأغنياء الغارقة في الترف واللذة هي النموذج الأسمى الذي ينبغي على البشرية أن تسعى إليه دون توقف.

حين أخبرنا الله عن قارون أخبرنا عن من يرى قيمته الوحيدة فيما يملكه والذي لن يتوقف عن إفساد القناعة والرضا في النفوس والقلوب ولن يتوقف عن استئجار من يحمل ذهبه وفضته للشوارع، والذي يبني قصرا جدرانه من زجاج ليرى الناس ما في داخله من مقتنيات هو وحده القادر على دفع ثمنها ولا ينازعه أحد عليها، أخبرنا في نهاية الأمر بهشاشته، وعجزه المطلق في دفع عقوبة السلب عن نفسه، وعجزه حتى على الإبقاء على الجدران التي تستره من أعين الشامتين به (خسفنا به وبداره الأرض).

ذريته اليوم وإن ورثت منه الشعور بتضاؤل القيمة لذواتهم، بالسعي المجنون لنيل المكانة من خلال المال ومقتنياته، إلا أنهم استبدلوا الجمال والحمالين بسناب شات، ومجموعة وسائل التواصل الاجتماعي.

وإن كان قارون عف عن إدخال الناس لغرفة نومه.. فإن ذريته فقدت هذه العفة فأقدمت عليه، وبات كل شيء في أيديهم هو أداة من أدوات التباهي والتفاخر به.

رسالة الله تعالى إلى عباده (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).. وأن المال ومقتنياته ليست إضافة للذات، وأن الحرمان منه ليس نقصا في كمالها.. ولكن قارون وذريته لهم رسالة تنقض مراد الله، فهم يسعون لجعل المال قيمة قائمة بنفسها، وهي التي تعطي للناس درجاتهم، وتنزلهم منازلهم بحسب حجم امتلاكهم للثروة ودون الوقوف عند سبل وطرق الوصول إليها.

قارون وذريته غايتهم أن يُزدرى الفقير بفقره، ولتصغر في عينيه نعمة الله تعالى عليه، وليرى قيمته مؤجلة حتى يمتلك ما لا يناله ولا يقدر عليه، وليعتقد الناس جميعا أن الأكثر ثروة هو الأكثر قيمة والأعلى منزلة.

لذا احذر أن تدخل في ذرية قارون لكي لا يسلبك الله تعالى نعمته عليك ولكي لا تلاحقك دعوات العاجزين، وحسرات قلوب أبناء الفقراء والمساكين، فيما تمده أمام أعينهم من عظيم عطايا الله لك، وجميل نعمه عليك، فليس لك فضل فيها وإنما أنت محض مرزوق لها ولست على زوالها بمسيطر.