عبدالحليم البراك

فكأنما جسدك ليس ملكك!

الاثنين - 31 يوليو 2023

Mon - 31 Jul 2023

بعد سنوات من العبودية المطلقة، جاء النقيض لها بعد الثورة على الكنيسة الأوروبية بالحرية المطلقة للإنسان في كل شيء، لكن هذه الحرية المطلقة لم تصمد أمام «ذئبية الإنسان لأخيه الإنسان» بحسب الفيلسوف الإنجليزي هوبز، بينما يرى إسبينوزا أن الفرد حر بشكل منقوص؛ لأنه لا يملك تصنيف الأشياء وفق ميزان (الخير/الشر)، ومن ثم فإن الإدراك الحقيقي لهذه المعاني يتلاشى خلف الصراع الفردي اللاأخلاقي للحفاظ على البقاء.

إذن تنطلق فكرة حرية الإنسان في جسده من منطلق الحرية العامة، يعني من العام الخاص، لكن وفي لحظات واضحة للبشرية، يفقد الإنسان حتما تلك الحرية على جسده، ويصبح للآخرين حقوق عليه بمنعه أو توجيهه حيال ذلك، ليس لأن الإنسان (الفرد يفقد عقله في لحظات ما) بل لأن إيذاءه لنفسه ليس حقا مطلقا ممنوحا له ولو كان هذا الشيء ملكه، وخاصة جسده.

الانتحار هو نوع من التصرف في الجسد وحياة الإنسان كاملة، فهل من حق الإنسان أن يقضي على حياته وجسده معه، ذلك أن هذا الأمر ملكه، ولو كان في كامل قواه العقلية، يكاد تجتمع البشرية على أن الانتحار جريمة الإنسان في حق نفسه، وإن كانت دول منحت حق الموت الرحيم وفق متطلبات محددة لمن أراد ذلك وشرعته قانونا إلا أن ثمة قطاع كبير من البشرية الجمعاء تختلف مع هذا الأمر فغالبا ما يكون من ينوي أن يتخلص من حياته هو مريض يحتاج لمن يعتني فيه ليتعافى عقله قبل جسده؛ لأنه خالف طبعا بشريا هو تعلق الكائن الحي بالحياة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

كما تكاد الشرائع والمجتمعات هي الأخرى أن تزدري بيع المرأة لجسدها، وربما الرجل كذلك مقابل المال؛ برغم أن جسدها لها، إلا أنها أدانت ذلك وربما جرمت هذا الأمر في بعض المجتمعات، وفي نفس الحالة ظهرت حالات محدودة ولكنها ممتدة عبر التاريخ من أجازت هذا الأمر، وربما قننته، حصل هذا التواطؤ بقبوله عمليا ورفضه نظريا للحاجة إليه، فأحدهما رغبة والآخر حاجة!

كما أن متعاطي المخدرات، حتى لو كان ضرره على نفسه فإنه لا يترك، فإن جسده المهمل هذا أو الذي يتعرض للأذى ليس ملكا له، ليس لأن الآخرين يملكون جسده، بل لأنه لم يحافظ عليه نظرا لضعف في قواه العقلية وإرادته، مما جعل التدخل في أمره وأمر جسده أمرا محتوما حتى لو اقتصر ضرره على نفسه ولم ينشر السم على غيره، فجسده هذا الذي يتأذى بسببه أو بسبب سلوكه لن يترك عرضة لتجاربه!

ولم يقتصر موضوع «أن جسد الإنسان ليس ملكه» كان خاصا في وهن العقل الذي ينعكس - أحيانا وليس دائما - على تصرف الإنسان بجسده بما يخالف الطبيعة البشرية، بل في حالات قد تكون إنسانية، جاء تحكم البشرية في جسد الإنسان على هيئة تشريعات تمنع بيع الجسد أو أجزاء منه حتى لو كانت حالات إنسانية، خاصة تلك التي تقع تحت وقع حاجة الإنسان للمال، مثل أن يتنازل إنسان ما عن أعضائه لشخص آخر مقابل المال مما يوقع ضررا مباشرا عليه أو ضررا محتملا، وجاءت عملية نقل الأعضاء هذه مدانة عالميا ومحاربة بقوة القانون وأجازت التبرع بعد أن يقرر الطب سلامة الطرف المتبرع أولا وحاجة المتبرع له الماسة له، بل ذهبت بعض التشريعات الشرعية على منع التبرع بالجسد حتى بعد الموت الدماغي، باعتبار أن الجسد عارية الله للبشر وعليهم أن يردوها إليه وليست لهم حتى يحق لهم منحها لغيرهم، وبرغم هذه التوجهات الدينية الشاذة، إلا أنها وعلى نطاق واسع مجازة، وربما تكون من الحالات النادرة أخلاقيا أن يحق للإنسان أن يملك ويتصرف في جسده مفارقا له، بينما يرى آخرون أنه بعد الموت الدماغي هذا، قد فارق جسده أصلا فلم يعد له فجاز التصرف فيه!

إن ملكية الإنسان لجسده محدودة ومرتبطة بصياغة المجتمع للعلاقة بين الإنسان وجسده، فالمجتمعات بمكوناتها الفيزيقية والميتافيزيقية هي من سنت القوانين المتحكمة في جسد الإنسان بما في ذلك قيم العلاقة بين الإنسان وجسده، وحسّنت وقبّحت شكل التعامل مع الجسد تملكا وتخلصا وتنازلا، ولكنها لم تخل من تغييرات على مدار الزمن وفق ما تراه تلك المجتمعات من حاجة أو ما طرأ عليها في قيمها من تغييرات!

Halemalbaarrak@