فهد إبراهيم المقحم

ثلث لنومك وثلث لعملك وثلث لوقتك!

الاحد - 30 يوليو 2023

Sun - 30 Jul 2023

ذهب إلى مقابلة وظيفية والحماس يملأ روحه، فالمنصب الشاغر يحقق حلمه، وكله ثقة بأن قدراته وخبراته وإنجازاته ستمكنه من الحصول على هذه الوظيفة المرموقة.

وفي أثناء المقابلة، ذكر هذا الشاب الطموح أن سبب تفوقه الرئيس هو اجتهاده الدؤوب وعمله المتواصل لمدة تصل إلى 16 ساعة يوميا!

هذه الإضافة غيرت مجرى قرار اللجنة من قبوله إلى استبعاده! فهم يرون أن هذا القدر من العمل بشكل يومي ينبئ عن خلل في بعض المهارات القيادية، كالتفويض والتخطيط وتحديد الأولويات، مما يتسبب في ضعف الإنتاجية وجودة المخرجات، ناهيك عن قلقهم إزاء حالته الصحية والنفسية.

لا شك أن هذا القرار نزل على صاحبنا كالصاعقة الصادمة، ولا غرابة في ذلك، فهو يعتقد أن العمل لساعات طويلة سمة إيجابية وميزة تنافسية؛ إذ أنها اليوم أصبحت مطلبا للالتحاق بالعديد من المنظمات. فهذا مثلا أحد الرؤساء التنفيذيين يذكر في لقاء له أن فريقه يعمل على مدار الساعة بشكل يومي، ويبقي لهم سويعات في نهاية الأسبوع للراحة أو الزيارات العائلية. وهذا آخر اتصلت به بعيد صلاة العشاء ليجيبني وهو في مقر عمله، فظننت أنها حالة طارئة تسترعي بقاءه، إلا أن هذا هو حاله وحال زملائه كل يوم!

يمتد جذور هذه الظاهرة إلى القرن التاسع عشر، إذ كان يطلب من عمال المصانع العمل لمدة تتراوح بين 70 إلى 100 ساعة أسبوعيا. ومع مرور الأيام أفرزت هذه الممارسة عددا من المشكلات الصحية والاجتماعية والاقتصادية، والتي أدت بدورها إلى ظهور مطالبات عديدة بإعادة النظر في ساعات العمل اليومية. ولذا في عام 1926م قرر هنري فورد، مؤسس ورئيس شركة فورد الأمريكية، تقليص الفترة النظامية للعمل إلى 5 أيام، ولمدة لا تتجاوز 40 ساعة أسبوعيا.

الباعث لدى هنري فورد في قراره هو ما ذكره في النشرة الدورية للشركة: إن هذا التغيير سيفتح طريقنا لمزيد من النمو والازدهار. ومن هذا المنطلق أصدر الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في عام 1938م قانون معايير العمل العادل للمساهمة في إخراج الولايات المتحدة من الكساد الكبير (The Great Depression)، ومن تلك المعايير: ألا تتجاوز عدد ساعات العمل النظامية 40 ساعة أسبوعيا، وهو ما تتبناه اليوم معظم دول العالم.

إن العمل لساعات طويلة بشكل يومي ظاهرة مؤرقة أفرزت عددا من المشكلات، من ذلك: التأثير السلبي على الصحة الجسدية والنفسية للعاملين، فقد أظهرت دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية إلى أن العمل 55 ساعة في الأسبوع يتسبب سنويا في وفاة نحو 400 ألف شخص بالسكتة الدماغية ونحو 350 ألف شخص من أمراض القلب. كما أفادت تقارير صادرة عن المعهد الأمريكي لأبحاث التوتر إلى أن السبب الرئيس للتوتر العصبي بين صفوف العاملين هو زيادة العبء الوظيفي والعمل لساعات طويلة، والتوتر بدوره يولد أعراضا سلبية، مثل: الإحباط والاكتئاب واضطراب النوم والنسيان وارتفاع الضغط والكلسترول وآلام جسدية.

ومن المشكلات كذلك، ضعف التواصل والتقصير في الحقوق والواجبات الأسرية، فقد أظهرت دراسة قامت بها الشركة الاستشارية الرائدة (Korn Ferry) أن 76% من العاملين في الولايات المتحدة الأمريكية يعانون في علاقاتهم الشخصية بسبب زيادة العبء الوظيفي.

وفي عام 2021 تصدرت عناوين الصحف دراسة عن أثر العمل لساعات طويلة قام بها مجموعة من موظفي المجموعة الاستثمارية العريقة (Goldman Sachs)، حيث يرى 100% من عينة الدراسة أن ساعات العمل الطويلة أثرت سلبا على علاقاتهم بعوائلهم وأصدقائهم.

وهذا أمر ظاهر، إذ يصعب على الموظف أن يجد وقتا مناسبا وكافيا يقضيه مع أسرته وأصدقائه بسبب الساعات الطويلة التي يقضيها في عمله.

ووفقا لتقرير نشرته هارفارد بزنس ريفيو فقد أظهرت العديد من الأبحاث الحديثة أن العمل لساعات طويلة ليس سيئا على صحة الموظفين فحسب، بل حتى على أدائهم، إذ يؤدي الإرهاق الوظيفي إلى تدني الصحة الشخصية، والمزيد من الأخطاء الوظيفية، والتجاوزات الأخلاقية، وارتفاع معدلات العزلة، وبالتالي ضعف التواصل والتعاون بين الموظفين، ناهيك عن التفريط في الاهتمام بالجودة والإبداع؛ ولهذا عندما يحترق الموظفون تعاني المنظمات من الويلات!

بل وجدت دراسة بحثية قامت بها جامعة ستانفورد الأمريكية أن الإنتاجية تنخفض بشكل حاد عندما يعمل المرء أكثر من 50 ساعة في الأسبوع، وحين تتخطى 55 ساعة في الأسبوع فإن العمل حينئذ لا طائل منه مقابل ما ينتجه من خسائر مادية وبشرية.

وقد أوضحت دراسة نشرتها مجلة (International Journal of Manpower) أن زيادة 10% من العمل خارج الوقت الرسمي يقابله إنخفاض يصل إلى 4% من الإنتاجية؛ وهي نتيجة حتمية، فالساعات الطويلة سبب للإرهاق البدني والتشتت الذهني.

ذكر معالي وزير الحج والعمرة الدكتور توفيق الربيعة في أحد لقاءاته أن التوازن بين العمل والحياة الشخصية أمر مهم، ثم أردف قائلا: إن العمل لساعات طويلة ليس دليلا على الإنتاجية، بل ربما يفتقر القائد إلى التفويض أو يقحم نفسه في التفاصيل؛ فيعيق من معه، وأنا يوميا أزور والدي وأجتمع بأبنائي وأمارس رياضة المشي، حتى في عز وقت جائحة كورونا - حين كان وزيرا للصحة - إذ لا يمكن أن أكون ناجحا في عملي مالم أكن ناجحا في بيتي وحياتي الشخصية!

والعجيب أن جائحة كورونا أفرزت اتجاهين متناقضين: اتجاه رأى أن موظفيه لديهم القابلية للعمل لساعات طويلة، سواء كان ذلك في مقر العمل أو من خلال أدوات العمل عن بعد. فوفقا لدراسة نشرتها هارفارد بزنس ريفيو، شملت أكثر من 1500 مشارك في 46 دولة، يرى 89% من المشاركين أن الإرهاق الوظيفي تفاقم مؤخرا وأن حياتهم العملية ازدادت سوءا بعد الجائحة! والسبب في ذلك يعود إلى أن الحاجة في وقت الجائحة لتوفير أدوات العمل عن بعد، جعلت من مفهوم التوافرية الدائمة للموظف أمرا طبيعيا لدى الكثير من المنظمات.

وفي المقابل، رأت بعض المنظمات أن الوقت الفعلي للإنجاز أقل من الساعات الرسمية للعمل؛ فتبنت تقليص أيام العمل إلى 4 أيام، ولمدة لا تتجاوز 32 ساعة في الأسبوع، دون المساس بالأجور والمزايا الوظيفية.

وبعد التجربة وجد أن هذا التقليص أسهم في تحسين بيئة العمل والحد من الاحتراق أو التسرب الوظيفي، مما عزز من إنتاجية الموظف وشغفه نحو عمله. وعلى هذا، انضمت العديد من المنظمات حول العالم لهذا التغيير تحت مبادرة بعنوان (4 Day Week Global) أطلقها متطوعون بالتعاون مع عدد من الباحثين في جامعات عريقة، مثل: جامعة أكسفورد، وجامعة كامبريدج، وكلية بوسطن.

هذه المبادرة تؤمن بأن وقت التغيير في نظام العمل قد حان، فهو لم يعد مناسبا للمرحلة الحالية، وأن تقليص عدد أيام العمل يعود بالنفع على الموظف والمنظمة والمجتمع بأكمله؛ إذ يسهم هذا التقليص في تعزيز صحة الإنسان وتركيزه وإبداعه، فتستفيد المنظمة حينها من جودة مخرجاته، علاوة على المساهمة في تحقيق التوازن بين حياته العملية والشخصية لبناء أسرته وتعزيز علاقاته، بالإضافة إلى منحه فرصة أكبر للترويح عن النفس والتعلم والتطوير والمساهمة في الأعمال التطوعية.

في عام 1928م تنبأ العالم البريطاني (John Maynard Keynes)، وهو إقتصادي أسهم بفعالية في تطوير نظرية الاقتصاد الكلي والسياسات الاقتصادية للحكومات، بأن الموظفين يحتاجون في عام 2030 للعمل 15 ساعة فقط في الأسبوع؛ إيمانا منه بأن المتغيرات القادمة والتقنيات المتقدمة ستسهم في تحسين الإنتاجية ونماذج الأعمال. ولئن كان البعض يستبعد حدوث ذلك، أو يرى أن تقليص العمل إلى 4 أيام قد لا يناسب كل المنظمات، فينبغي أن ندرك أن العمل لأكثر من 8 ساعات بشكل يومي ضرر وهدر يستوجب النظر في مسبباته، ومراجعة ثقافة المنظمة وأولوياتها وأسلوب عملها؛ لتعمل بذكاء لا بعناء!

moqhim@