محمد سعود المسعود

أخبرتك أني لست بخير!

الخميس - 27 يوليو 2023

Thu - 27 Jul 2023

«أخبرتك أني لست بخير». جملة منحوتة على رخامة بيضاء لقبر فتاة ذات 20 حولا في ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية، من الواضح أن الفتاة الأمريكية المتوفية رغبت أن تستبقيها لأحد خذلها وقت حاجتها إليه، أو ربما لم يبصر الضمور فيها، والضعف منها، ولم ير الوهن وهو يسلب القوة، والتعب والضنا والوجع السالب لكل رغبة والسالب لكل حس، والغالب على كل يقظة.

هذا العتب الرفيع هو أقسى من أن يحتمل، ذنب أكبر من أن يغفره ضمير حي لصاحبه!.

لأنه فيما يعنيه أن يموت الإنسان وهو على يقين بخذلان كل من حوله له، أو بخذلان من يحبهم أكثر من نفسه، أو بخذلان من لم يتوقع بحال أن يخذلوه وهو في هذا الضعف الذي أفضى به إلى الموت.

قرأت هذه العبارة وتاهت مني نفسي!! كم مرة خذلنا رجاء قلوب تعلقت بنا، كرجاء أخير في حياتهم!! وكم مرة أعرضنا عن وجوه كنا نحن الوجهة الأخيرة في قلوبهم! وكم هي المرات التي تباعدنا عن نفوس ليس لها في الدنيا ظلا تستظل به غيرنا!!

كم مرة ننظر في الوجوه ولا نبصر التحول، ونمر على العوز ولا نراه، ويتجلى لنا من العيون ضراعة يلجمها التعفف عن البوح، فنتجاهلها ونمضي عنها مسرعين!

وبعد الرحيل نبصر ما كان حاضرا على الدوام، ويحجبنا عن رؤيته حجاب من انشغالنا بأنفسنا، وقلة التبصر بحال من هم بحاجة إلينا.

ربما كانت الحاجة إلى حبك وإظهاره، ربما اهتمامك وإسباغه، ربما عطفك وفيضه، وربما بقية من عطية حب تبذلها كفريضة من فرائض نبلك ومحبتك ومروءتك وإنسانيتك دون أن تحوجهم لطلبها، أو تشعرهم بتفوقك عليهم ببذلها.

إن هذه الفتاة قررت أن تؤلمنا جميعا لأنها تركت من خلفها موعظة لقلوبنا، وإنارة لضمائرنا إن خيبة الأمل فينا ممن يحبنا بصدق ذنب كبير، وأن خيبة الرجاء ذنب، وأن الغفلة عن أوجاعهم خطيئة كبرى.

أما من أفصح منهم إليك وباح لك، ونطق لسانه بضعفه وهشاشته بين يديك، أو يده رفعها بالطلب منك، ورفع عينيه بالرجاء فيك؛ فأنت أمام فريضة من أعظم فرائض الشرف الرفيع.

في نهاية المطاف دائما ما تحمل نفوسنا قوائم بأسماء الذين "ظلمونا" والذين خذلونا عند حاجتنا إليهم.. أو لم نجدهم ونحن بأشد الحاجة إليهم!!

ولكن قلما نحمل قائمة مماثلة بأسماء الذين ظلمناهم في لحظة قوة مغرورة، أو لحظة عمى عما أحدثته أقوالنا وأفعالنا فيهم، أو الذين أسأنا إلى مشاعرهم، وحطمنا قلوبهم، أو الذين لم نرتفع بعد لرد الجميل إليهم، أو الوفاء بإحسان سبقونا إليه، كل مخذول من المحبين المخلصين الذين لم نتتبع بحب صادق شدة حاجتهم لنا حبا وعطية.

ربما وصلتنا "لقد أخبرتك أني لست بخير" ولكنها هذه المرة منحوتة على قبر مخذول صاحبه قد أحبك بتمام قلبه وكان خذلانك له أقوى من قدرته على احتماله فقرر أن يبقيها لك شاهدة على ضنا الخذلان وهوانه وذله لصاحب القبر عجز التدارك، وعن حلول العجز وتمامه.