زيد الفضيل

الذهنيات المسبقة وإشكال الزمن

السبت - 22 يوليو 2023

Sat - 22 Jul 2023

من أجمل روايات التراث العربي تلك المقولة التي تنص على أن شخصا كان يمشي في الصحراء، فرأى شاخصا من بعيد، ظنه للوهلة الأولى وحشا، فلما اقترب منه تبين فيه ملامح إنسان، ولما اقترب منه أكثر وأكثر تبين له أنه أخوه ابن أمه وأبيه.

ذلك هو واقعنا اليوم الذي سبّب ويُسبب كثيرا من مآسينا البينية، فمعظم إشكالاتنا وحروبنا مرجعها الجهل بالآخر دينا ومذهبا، ليس على صعيد ديننا الإسلامي وحسب، وإنما هو ممتد على صعيد الديانات السماوية وغيرها من الثقافات الإنسانية الأخرى. لكن وقعه اليوم بين الناس والمسلمين بخاصة أكبر، ووطئه عليهم أشد وأنكى، وهو ما يمكن أن يتراءى في مختلف أوجه الصراع الدامي الذي ينطلق من فكرة خلاف التضاد لا التنوع، ويرتكز على فكرة امتلاك الحقيقة من قبل طرف دون آخر، فالناس من وجهة نظرهم بين حق وباطل، مؤمن وكافر، جنة ونار؛ في حين يؤمن القائلون بخلاف التنوع بأن الحقيقة نسبية ولها أوجه عديدة، وفقا لما عبر به الإمام أبو حنيفة النعمان حين قال: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.

على أن كل ذلك يظل مقيدا بمدى معرفة الآخر وفهم منطلقه واستيعاب رؤيته الإيمانية، فالناس أعداء ما جهلوا كما قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وبالتالي فإشكالنا قائم على عدم وعينا بالآخر وإدراك حقيقته بمعزل عما ترسخ في ذهننا من أفكار مسبقة، ولعمري فإن الخلاص لا يكون إلا بالتحرر من كل الأفكار المسبقة التي حتما ستحجب كثيرا من أوجه الصواب في الرأي الآخر، أو على الأقل ستشكل حائطا منيعا أمام أي نقطة ضوء في الجهة المقابلة.

في هذا السياق أشير إلى خطأ أراه واقعا بين الناس في فهم مصطلح الحوار، حيث ترسخ في وجدان العامة والمتعلمة بأن الحوار حالة جدلية القصد منها الدفاع عما يؤمن به أحدنا ودحض مختلف الأفكار المخالفة له. في حين هو مقدمة استفهامية القصد منها فهم الآخر وإدراك منطلقاته، ولذلك يقتضي معه الإصغاء لما يقول الآخر بعقل وقلب مفتوح، ولا يعني إصغاء أحدنا للآخر بأنه موافق على كل ما يقول، أو أنه قد آمن بما سمع، كما لا يقتضي المعارضة لكل ما قيل، حتى إذا استوعب الفكرة كاملة وفهم أساسها ومنطلقها ودلالاتها، أمكنه الانتقال إذا أراد وبموافقة الآخر إلى مرحلة تالية وهي مرحلة الجدال، والتي جاء معناها من جَدْل المرأة لشعرها، حيث تأخذ خصلة من هنا وخصلة من هناك لتصنع بها جديلة أنيقة تتزين بها، كذلك هو حال الجدال في واقعه ومعناه، فالهدف منه الوصول إلى فكرة نهائية بمنهج علمي وأسس منطقية، وبالتالي فيقتضي الجدال الاستماع الذي يستدعي من المجادل تجهيز جواب منطقي منهجي لفكرة سمعها من الآخر، وهكذا تتحقق الفائدة المرجوة بين مختلف الأفكار والرؤى الدينية والمذهبية، وتتهيأ فرصة مناسبة ليستشعر الجميع بأن قواسم كثيرة تجمعهم، وأن الإشكال كامن في عدم قدرتهم على الإصغاء بعضهم بهدوء، وسماع أفكارهم بمنطق ومنهج علمي، ووفق معطيات خيرية أخلاقية.

أسوق ذلك لأشير إلى قيمة شهر الحج الذي نغادره وقد ائتلفت فيه القلوب وتوجهت بنور بصيرتها إلى بيت الله المعظم، وحرم نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مُلبية مُسَلِّمة، من مختلف الأجناس والأعراق، والتيارات والنحل، والمذاهب والأفكار، وأتساءل بدهشة: ألا يدرك كل أولئك قيمة ما يجمعهم في هذه الأرض المباركة من حب وإخاء وتسامح؟ فتراهم وقد أعانوا بعضهم، وأفسحوا الأماكن لبعضهم، وتناغموا بأصواتهم مُهللين مُكبرين مُسَلِّمين، تاركين حصونهم التي أهلكتهم وراء ظهورهم؛ وما أجمل استشعارهم في تلك اللحظات لما اكتنزوه في صدورهم من كتاب رباني أساسه الرحمة والعدل، وقوامه الرأفة والتسامح، وديدنه حسن الظن والإتقان في العمل.

أسوق ذلك أيضا لأذكر نفسي والآخرين بقول الله تعالى {لكل جعلنا شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وقوله جل جلاله {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} وقوله {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين}.

أشير أخير إلى أن المملكة قد بدأت عهدا جديدا من الانفتاح على الآخر بعقل متسامح بعيدا عن تلك الأيديولوجيات الصحوية التي شتت شملنا، وفرقت جمعنا، وأدخلت الشحناء في نفوسنا، حتى جاء الأمير الشاب محمد بن سلمان يحفظه الله بمباركة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز أيده الله، فأنهى كل ذلك، وأسس لصفحة جديدة قوامها المحبة والتسامح والإخاء، فطوبى للمتسامحين. وكل عام وأنتم بخير.

zash113@