عواجيز المول...
الثلاثاء - 18 يوليو 2023
Tue - 18 Jul 2023
أتردد على سوق شامخ، أرتاح لنسق تصميمه والجو العام بداخله.
أذهب صباحا لمزاولة رياضة المشي كلما أمكن في هذا الحر الخانق.
يلفت نظري في كل مرة وجود مجاميع متراشقة من الرجال يجلسون داخل مقاه أو مطاعم معينة، الغالب أن فئة كبيرة منهم قد تجاوزت سن الخامسة والخمسين، بعضهم يتجاذب الحديث أثناء تناول فنجان قهوة، مختلسا نظرات إلى المارة.
أتوقع أن غالبهم من المتقاعدين الذين أنهوا مشوار العمل، ويجتمعون على إفطار أو فنجان قهوة، يتسامرون ويقضون بعض الوقت مع الأصدقاء أو العابرين من المعارف، والبعض الآخر لا هم له إلا ممارسة التدقيق البصري في كل من يمر، ومن أعلى لأسفل، تماما كجهاز «سكانر» على مستوى 180 درجة.
ألحظ أيضا مجاميع من السيدات في مجالس هنا وهناك، وأكثرهن من كبار السن، يمارسن الهرولة فرادى أو أزواجا.
لمحت أحدهم اليوم جالسا على كرسي بالدور الأرضي، يسند عكازه إلى مقعد جانبي ويمد رجليه على كرسي آخر، ثوبه رمادي يعلن أنه يقف في منطقة محايدة، يحق له فيها أن يتشبث برأيه الباهت في مكان يعج بالمرتادين، يلبس مداسا شرقيا مهلهلا تبرز منه كعوب الرجلين.
ما نلبسه أحيانا يكون شاهدا ومتهما ومتواطئا فيما يحدث.
ذكرني بأولئك الذين يسمحون لأنفسهم بارتياد المطاعم والأسواق بثوب البيت، أو ذاك الثوب الكاروهات ذو الأكمام المنتصفة، والجيب المدبب على الجهة اليسرى، الذي لا يضفي إلا البشاعة على سمت الرجل وهيئته، ويعكر مجال رؤية العين فتنتفي الجودة من المنظر العام.
كان يمتلك سكونا عجائبيا، رغم أنه كان يعري بنظراته كل من يتحرك أمامه. جلست في الزاوية البعيدة خلفه أنتظر لقاء البعض.
وكنت أتابع بلا تقصد ما يفعل، فالسكون أحيانا يصبح موضع شك وسؤال، ربما كان مريضا، متعبا أو يقتله الملل، ربما كان من العابرين بلا أثر.
المهم أنه كان لافتا للانتباه بزيه الرث وهيئته الغريبة، خارجه يُرى وداخله لا يُرى.
انشغلت قليلا بعد أن حضرت زمرتي. وأعدت النظر في اتجاهه، لا زال يجلس كما هو يضع رجلا فوق أخرى، بينما يلامس رجليه بأصابع يديه، أمامه فنجان قهوة في كأس من الورق، يتكئ على عكازه قليلا.
بينما لا زالت رأسه تجول وتتحرك.
وقف فجأة بصعوبة وكأنه كان ينتظر إشارة مني. ألقى نظرة أخيرة على المكان.
رمقنا فجأة من على بعد بنظرة مخيفة متوجسة.
غادر وحيدا بعد أن كان يجلس وحيدا وبكل استسلام.
الموقف الغريب برمته له تفسيران عندي: إما أن هذه العينة لا تجد متنفسا للعيش حياة طبيعية داخل مكان تمارس فيه الأنشطة الاجتماعية والثقافية والرياضية، فلا تجد إلا السوق طريقا ممهدا يوفد إلى الذات، قبل أن يلتف حولها حبل النسيان.
وإما أن هذه الشخصيات ممن يستمتع بالتربص وأذية الناس ضمنيا، عبر البحلقة وتمضية الوقت بلا اعتبارات لأدب السوق وسلوكياته.
نعلم أن المخالطة بالأشخاص تساعد في تحسين الحالة المزاجية والنفسية، وتتيح فرص التعرف على الآخرين، فيزداد النشاط والشعور بالحيوية.
كما يرتفع مستوى المثاقفة في مختلف المواضيع وتعلو نسبة ثقة الفرد بنفسه، وتتعزز لديه مفاهيم الذات والجدوى، إضافة إلى نمو اطلاع الفرد على الأمور التي تدور في المجتمع من مختلف القضايا والأحداث.
المسألة ليست عجوزا ولا مولا ولا يحزنون، إنما هي مسألة ثقافة ارتياد الأسواق أو المولات، فمن حق الجميع الاستمتاع بالأمكنة مع من نريد ووقتما نريد، لكن هناك أدبيات تمثل خطا فاصلا في هذه الحرية، وهي مسؤولية ارتياد الأسواق.
في السوق أنت مع ضدك وتربصك بالسكوت، مع إحساسك الصباحي أو المسائي أنك أصبحت حرا، وأنك راض وممتن وتحب مرحلة الهدوء أو الصخب التي اخترتها.
تقتطع وقتا للتسكع أو للبحث عما تريده حقا، بعد يوم حافل أو به خيبات.
أنت مع اختياراتك دون أن تزعج أو تضر الآخرين.
عليه هي دعوة لتركيز مبادرات الرؤية نحو إنشاء أندية اجتماعية ترحب بالعائلة والأفراد.
أندية على طراز يفوق ما نجده في الدول العربية والأجنبية.
نواد رياضية وثقافية واجتماعية على مساحات خضراء كبيرة، بها مختلف أنواع الرياضات، وتمارس فيها السباقات والألعاب المختلفة، على أن تكون أسعار اشتراكاتها معقولة لتستوعب سكان الأحياء المجاورة حولها.
هناك ضرورة ملحة لوجود الأندية الاجتماعية في مجتمعنا في هذه المرحلة من تطور البلاد.
مراكز الأحياء لدينا ضعيفة الدور والأثر، الأندية الرياضية أنشطتها مقتصرة ويحددها الانتماء الرياضي، بعض المدارس الحكومية والأهلية كانت تفتح كمراكز للأنشطة بعد اليوم الدراسي أو في الصيف لتقدم هذه الخدمة المجتمعية، لكن يظل دورها صغيرا وموقتا ومختصرا.
أنا أتحدث عن أندية اجتماعية ضخمة تدعمها الدولة، يتولاها صندوق الاستثمار العام أو هيئة الترفيه أو أي جهة معنية، إذ لا بد من احتواء كل طبقات المجتمع، خاصة كبار السن، وأن يتم ذلك بشكل ممنهج يتيح للجميع التجانس عبر غرس وتطوير الممارسات المجتمعية اللائقة، لدعم ما ينهض به والمحافظة على ما تم اكتسابه.
وإلى أن يحين ذلك أقول لرواد السوق وبعضهم من «العواجيز».
أو أقول للمتربص الفاغر إياه، في مكان يكثر فيه السهو واللهو، والغفلة واللغو، أرجوك مارس أدب السوق، وراقب نظرك كاتما العيوب. ساترا عن الناس. ولا تجلس في طريق الآخرين، ولا تضيع وقتك بلا فائدة.
smileofswords@
أذهب صباحا لمزاولة رياضة المشي كلما أمكن في هذا الحر الخانق.
يلفت نظري في كل مرة وجود مجاميع متراشقة من الرجال يجلسون داخل مقاه أو مطاعم معينة، الغالب أن فئة كبيرة منهم قد تجاوزت سن الخامسة والخمسين، بعضهم يتجاذب الحديث أثناء تناول فنجان قهوة، مختلسا نظرات إلى المارة.
أتوقع أن غالبهم من المتقاعدين الذين أنهوا مشوار العمل، ويجتمعون على إفطار أو فنجان قهوة، يتسامرون ويقضون بعض الوقت مع الأصدقاء أو العابرين من المعارف، والبعض الآخر لا هم له إلا ممارسة التدقيق البصري في كل من يمر، ومن أعلى لأسفل، تماما كجهاز «سكانر» على مستوى 180 درجة.
ألحظ أيضا مجاميع من السيدات في مجالس هنا وهناك، وأكثرهن من كبار السن، يمارسن الهرولة فرادى أو أزواجا.
لمحت أحدهم اليوم جالسا على كرسي بالدور الأرضي، يسند عكازه إلى مقعد جانبي ويمد رجليه على كرسي آخر، ثوبه رمادي يعلن أنه يقف في منطقة محايدة، يحق له فيها أن يتشبث برأيه الباهت في مكان يعج بالمرتادين، يلبس مداسا شرقيا مهلهلا تبرز منه كعوب الرجلين.
ما نلبسه أحيانا يكون شاهدا ومتهما ومتواطئا فيما يحدث.
ذكرني بأولئك الذين يسمحون لأنفسهم بارتياد المطاعم والأسواق بثوب البيت، أو ذاك الثوب الكاروهات ذو الأكمام المنتصفة، والجيب المدبب على الجهة اليسرى، الذي لا يضفي إلا البشاعة على سمت الرجل وهيئته، ويعكر مجال رؤية العين فتنتفي الجودة من المنظر العام.
كان يمتلك سكونا عجائبيا، رغم أنه كان يعري بنظراته كل من يتحرك أمامه. جلست في الزاوية البعيدة خلفه أنتظر لقاء البعض.
وكنت أتابع بلا تقصد ما يفعل، فالسكون أحيانا يصبح موضع شك وسؤال، ربما كان مريضا، متعبا أو يقتله الملل، ربما كان من العابرين بلا أثر.
المهم أنه كان لافتا للانتباه بزيه الرث وهيئته الغريبة، خارجه يُرى وداخله لا يُرى.
انشغلت قليلا بعد أن حضرت زمرتي. وأعدت النظر في اتجاهه، لا زال يجلس كما هو يضع رجلا فوق أخرى، بينما يلامس رجليه بأصابع يديه، أمامه فنجان قهوة في كأس من الورق، يتكئ على عكازه قليلا.
بينما لا زالت رأسه تجول وتتحرك.
وقف فجأة بصعوبة وكأنه كان ينتظر إشارة مني. ألقى نظرة أخيرة على المكان.
رمقنا فجأة من على بعد بنظرة مخيفة متوجسة.
غادر وحيدا بعد أن كان يجلس وحيدا وبكل استسلام.
الموقف الغريب برمته له تفسيران عندي: إما أن هذه العينة لا تجد متنفسا للعيش حياة طبيعية داخل مكان تمارس فيه الأنشطة الاجتماعية والثقافية والرياضية، فلا تجد إلا السوق طريقا ممهدا يوفد إلى الذات، قبل أن يلتف حولها حبل النسيان.
وإما أن هذه الشخصيات ممن يستمتع بالتربص وأذية الناس ضمنيا، عبر البحلقة وتمضية الوقت بلا اعتبارات لأدب السوق وسلوكياته.
نعلم أن المخالطة بالأشخاص تساعد في تحسين الحالة المزاجية والنفسية، وتتيح فرص التعرف على الآخرين، فيزداد النشاط والشعور بالحيوية.
كما يرتفع مستوى المثاقفة في مختلف المواضيع وتعلو نسبة ثقة الفرد بنفسه، وتتعزز لديه مفاهيم الذات والجدوى، إضافة إلى نمو اطلاع الفرد على الأمور التي تدور في المجتمع من مختلف القضايا والأحداث.
المسألة ليست عجوزا ولا مولا ولا يحزنون، إنما هي مسألة ثقافة ارتياد الأسواق أو المولات، فمن حق الجميع الاستمتاع بالأمكنة مع من نريد ووقتما نريد، لكن هناك أدبيات تمثل خطا فاصلا في هذه الحرية، وهي مسؤولية ارتياد الأسواق.
في السوق أنت مع ضدك وتربصك بالسكوت، مع إحساسك الصباحي أو المسائي أنك أصبحت حرا، وأنك راض وممتن وتحب مرحلة الهدوء أو الصخب التي اخترتها.
تقتطع وقتا للتسكع أو للبحث عما تريده حقا، بعد يوم حافل أو به خيبات.
أنت مع اختياراتك دون أن تزعج أو تضر الآخرين.
عليه هي دعوة لتركيز مبادرات الرؤية نحو إنشاء أندية اجتماعية ترحب بالعائلة والأفراد.
أندية على طراز يفوق ما نجده في الدول العربية والأجنبية.
نواد رياضية وثقافية واجتماعية على مساحات خضراء كبيرة، بها مختلف أنواع الرياضات، وتمارس فيها السباقات والألعاب المختلفة، على أن تكون أسعار اشتراكاتها معقولة لتستوعب سكان الأحياء المجاورة حولها.
هناك ضرورة ملحة لوجود الأندية الاجتماعية في مجتمعنا في هذه المرحلة من تطور البلاد.
مراكز الأحياء لدينا ضعيفة الدور والأثر، الأندية الرياضية أنشطتها مقتصرة ويحددها الانتماء الرياضي، بعض المدارس الحكومية والأهلية كانت تفتح كمراكز للأنشطة بعد اليوم الدراسي أو في الصيف لتقدم هذه الخدمة المجتمعية، لكن يظل دورها صغيرا وموقتا ومختصرا.
أنا أتحدث عن أندية اجتماعية ضخمة تدعمها الدولة، يتولاها صندوق الاستثمار العام أو هيئة الترفيه أو أي جهة معنية، إذ لا بد من احتواء كل طبقات المجتمع، خاصة كبار السن، وأن يتم ذلك بشكل ممنهج يتيح للجميع التجانس عبر غرس وتطوير الممارسات المجتمعية اللائقة، لدعم ما ينهض به والمحافظة على ما تم اكتسابه.
وإلى أن يحين ذلك أقول لرواد السوق وبعضهم من «العواجيز».
أو أقول للمتربص الفاغر إياه، في مكان يكثر فيه السهو واللهو، والغفلة واللغو، أرجوك مارس أدب السوق، وراقب نظرك كاتما العيوب. ساترا عن الناس. ولا تجلس في طريق الآخرين، ولا تضيع وقتك بلا فائدة.
smileofswords@