بسمة السيوفي

عندي شقة

الأربعاء - 12 يوليو 2023

Wed - 12 Jul 2023

كنت أجلس أمامه على المكتب بسبب مشكلة في حجز تذكرة سفر، إشارة الاسم موجودة على طرف الجيب في معطفه الكحلي الأنيق، مشذب الشوارب مهندم اللحية ومبتسم بالرغم من أن المكتب يعج بعشرات المراجعين.

عمره في الأربعينات الأغلب أنه متمكن من عمله.

هناك عطل تقني في عملية الحجز وقد استقطعوا المبلغ من بطاقتي الائتمانية دون أن يكون هناك تذكرة، استغرقه البحث عن اسمي محاولات بعد أن قدمت له ما يثبت، طلب مساعدة موظف آخر، وهذا الآخر يجلس مجاورا على مكتب آخر يرمقه شذرا، وجهه مركز على الشاشة وأمامه مراجع آخر، ملامح وجهه عابسة وكأنه يقول: أبعدوا عني، سأله عن تحويلة هاتف الدعم الفني، لم يرد عليه، كرر السؤال، بين مكاتبهم قرابة الثلاثة أمتار لا أكثر، رد بقرف: خمسة تسعة وليس خمسة ستة وأكمل الرقم، رد أحدهم فأكمل وهو يحادثه نقر مفاتيح الكمبيوتر، بعد دقائق من البحث قال: وجدت اسمك.. أخيرا، وجدني تماما مثل أناس كثيرة تضيعني فلا أعود، قال: فعلا الحجز ملغى، سأطبع لك ما يثبت حتى يتم استرجاع المبلغ من البطاقة، ليس لديه طابعة، فطلب من زميله «القرفان المستاء» أن يطبعها له، انتظرنا إلى أن يتكرم ويتعطف، فقلت أحاول تخفيف وطأة الانتظار: منذ عشرة أيام وأنا أحاول الكترونيا وهاتفيا دون فائدة، رد بتهذيب: نعتذر منك على الخلل، ثم سألني: ستسافرين إلى هناك؟ قلت نعم لدينا مناسبة عائلية للحضور، قال: اشتريت شقة منذ سنة هناك في منطقة كذا.. بدل الفنادق التي أصبحت غالية جدا، قلت: ما شاء الله عين العقل الله يبارك لك. قال: البلد قريبة وفي أي وقت يستطيع المرء السفر لها.. كان بعض الموظفين والمراجعين يراقبون باستغراب الحديث الدائر بيننا.

انتصب بعدها واقفا ليحضر الورقة المطبوعة ووضع خطا بقلمه تحت رقم الحجز المكتوب طالبا أن أكمل إجراءات مخاطبة البنك لاسترداد المبلغ. شكرته بامتنان على خدمته المخلصة وقلت بصوت مسموع: لو تكرر أمثالك في طريقة تقديم الخدمة لأصبحت شركتكم بخير.

هذا موقف طازج حدث معي، يخبر عن قدرة المهارات الناعمة على احتواء العميل وحل مشاكله والتغلب على مؤشر السخط على نوع الخدمة المقدمة. أنا أتحدث عن الشخصية ولغة الجسد والقدرات والخبرات والإطار المرجعي لكل موظف، أتحدث عن نسب الوعي وطبيعة الشخصية وأيضا الطموح، وعن وجود نظام لتقييم الأداء يدفع بالموظف لتحسين أدائه متعمدا خاصة عند التعامل مع الجمهور.

هناك موظفون يقودون شركاتهم نحو نقاط مضيئة تعيد النفخ في جدوى الكسب والتأثير على قطاع الأعمال أو الخدمات، فيؤكدون مفاهيم التميز والأخلاق المهنية، وهناك موظفون يمتهنون اللامبالاة مع ما سواهم من المخلوقات، المهم أن الرواتب تدفع ووقت العمل يمر دون حرق دم أو جهد زائد، هؤلاء موجودون ويصعب التخلص منهم. السؤال الجوهري هو كيف نجعل منهم قيمة مضافة في بيئة العمل؟

أتكلم عن التحديات والمتطلبات المتجددة لسوق العمل التي تتجاوز التكوين الأکاديمي والاختصاص إلى مجالات أوسع، وتسمى المهارات الناعمة التي تتركز في 25 مهارة أبرزها التواصل، التنظيم والتخطيط، العمل ضمن فريق، التأقلم والمرونة، التفكير الناقد، إدارة الأزمات، الاحتراف والتفاوض. فكيف يفترض مثلا لمؤسسات الطيران أن تتميز وتنافس إن تدنى مستوى الوعي لدى العاملين حول أهمية امتلاك المهارات الناعمة وأثرها المهم على الأداء المؤسسي والميزة التنافسية؟ متى سينتهي مفهوم أن الموظف متكرم على المراجع أو العميل بخدماته ووقته.. بينما يتناسى أنه قد تم توظيفه أصلا للقيام بهذه الخدمة؟ كيف لكل مؤسسات الدولة بقطاعيها الحكومي والخاص أن تتطور وتنافس وهي لازالت توظف نفس الرؤوس البالية عبر ممارسات غير مبالية؟

لا أنكر البتة أن هناك تطورا كبيرا وملموسا في الخدمات المقدمة لدى بعض القطاعات الحكومية في المملكة، وأضرب مثالا فاخرا بما تقدمه وزارة الداخلية متمثلا في قطاع الأحوال المدنية. أعتبرها صدقا من أفضل القطاعات التي يجدر أن تحذو حذوها كافة الجهات في تقديم الخدمة للمواطن والمقيم. احترافية، دقة، تعامل كريم، ابتسامة، مهارات ناعمة متمكنة ونزاهة. كل ما أرجوه أن يتبدل حال قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم لنشاهد تحولا ملموسا على مستوى التعاملات اليومية في أساليب التعامل مع المراجعين.

أعلم أن هناك بطالة مقنعة عبر الترهل الكبير في الأعداد، وأيضا هناك مقاومة للتغيير.. لكنه لم يعد بإمكاننا الوقوف متفرجين عند صياح موظف على مراجع، أو عند تسويف وإضاعة الوقت في الحكايات ومطالعة الجوال، أو عند استقبال المراجع في مكان غير لائق وبطريقة غير لائقة. أصبحنا أقوياء كمواطنين في هذا الزمن.. فالوطن بات أقوى.

ما أطلبه من أي مراجع.. لا تسكت.. خذها من باب الأمر بالمعروف وإصلاح ما تنكره نفسك وأخلاقك. اطلب المدير.. المسؤول.. من بيده القرار.. تكلم وعبر بموضوعية عما تريد.. خاصة لدى المؤسسات والجهات التي ليس لديها أداة لتقييم الخدمة ولا تشجع العميل للإبلاغ عن المشكلات والمخاوف. كن إيجابيا بقلب حي.. لا تذكر المشكلة فقط وإنما أيضا اقترح الحل وما تريده أن يتحسن في هذه الجهة. نحن مسؤولون أيضا عن مكافحة السيئ والمطالبة بالأفضل.. حتى لو لم يتحقق في حينه، فسيحدث التغيير ما دمنا نعي ونتكلم، ونقدر الجيد ونستاء من السيئ.

تحتاج المؤسسات إلى تحليل وتحديد مستويات المهارات الناعمة الموجودة لدى موظفيها، خاصة المهارات التي تتعلق بالأخلاق المهنية. ومن ثم العمل على تنمية وتطوير المهارات التي تختلف بين القطاعات، هناك بالتأكيد اختلاف بين القطاع السياحي والقطاع الفندقي، وبين قطاع الطيران وقطاع البنوك.

أما كيف تكتسب المهارات الناعمة على المستوى الشخصي فيعتبر التعرف الجيد على المهارات الشخصية ومقارنتها بالمهارات المطلوبة للوظائف هو أول الخيط. ويمكن تنمية المهارات من خلال التدريب ومن خلال قبول القيام بمهام جديدة تطور المهارات. نحن بحاجة إلى أشياء كثيرة لتحقيق النجاح منها الاجتهاد والحظ والفرصة، لكن المهارات الناعمة هي التي تمكن من معرفة ماهية الفرصة لاقتناصها. العمل هو جامعة الحياة ومهاراتنا الشخصية ليست شيئا نولد به، نحن نتحمل المسؤولية الكاملة لنصبح كما نريد. ما يشكل الشخصية مزيج من الصفات الإنسانية والقدرات والمهارات الناعمة حتى لو لم تكن تملك شقة.

smileofswords@