محمد سعود المسعود

من الذي يرى سعيك؟

الثلاثاء - 11 يوليو 2023

Tue - 11 Jul 2023

إننا جميعا نرى النتائج ولا نتتبع السعي والجهد الذي يسبقها.

بائع يجول ببضاعة ضئيلة القيمة قليلة الربح، على رصيف شارع، يتلظى من الشمس الحارقة وقسوة سياطها الملتهبة، وطغيان الظمأ، وشح العابرين عليه، يصمت عن جوعه، ويتنكر لألم جسده، ويطوي في نفسه عزة نفس أذلها الفقر، ومهانة العوز.

حين يعود إلى منزله مثخنا بأحمال قلبه، وهموم نفسه، وعظيم تعبه، وطول العذاب في سعيه، تنظر زوجته وأولاده إلى شيء واحد فقط وهو (مقدار المال الذي جمعه)!!

في أكثر المرات يتعرض المرء في سبيل قوته ورزق عياله إلى الإذلال والمهانة، إنه في كل يوم يقدم بعضه في سبيلهم، نظره، وسمعه، وشيئا من صحته، إنه يشوه نفسه عامدا من أجلهم، وتتحول حياته إلى تضحية بشرية يقدم كل يوم شيئا من نفسه، ليقيهم خزي العوز، وذل الطلب من الناس!

اعتاد أحد الفقراء أن يحمل على ظهره (خمسين كيسا من الطحين) ويرتقي بها السلالم لصالح أحد المخابز الكبيرة، يأكل من المنتجات التي يتحضر المخبز للتخلص منها في نهاية كل يوم، وقد يتواصل العمل في أيام مرضه إلى الليل، ثم ينال أجرا مقداره مئة ريال عن كل يوم.

ولما أصيبت ركبه بسبب هذه الأحمال الثقيلة وتقدمه في السن تجاهل نصائح الأطباء، وكتم أوجاعه واستطال العمل إلى قرابة منتصف الليل بسبب أوجاعه وضعفه، حتى أسلمه المرض إلى العجز عن الحركة، حيث تداعت فقرات الظهر بما لا يمكن علاجه.

لم يلحظ أحد من أبنائه عظيم هذه التضحيات بتاتا وظل الجميع يقفز على تسمية مهنته (كحمال أكياس طحين) وكأنه يشعرهم بالخزي والعيب، ويعد فاشلا؛ لأنه عاش فقيرا ومات فقيرا!

العقل البشري لم يعتد النظر إلى (السعي) ولكنه يقفز مباشرة إلى النتائج! التعب العظيم في تحضير كل لقمة، والجهد الهائل الذي يبدل في تأمين ثمنها، لم يخبرونا ويعلمونا بوجوب التوقف عنده والاقتراب من الشعور بالامتنان تجاهه.

وحده الله تعالى يخبرك (وإن سعيه لسوف يرى)! ليست النتائج وحدها ينظر إليها الله ويثيبك عليها، ويذخر لك المكافأة والعطية بسببها، بل ينظر الله تعالى إلى الخطوات التي خطوتها، وإلى الضنى الذي تحملته، وإلى شواغل قلبك فيه، وإلى حوامل نفسك من أجله، وإلى القصد، وحسن ظنك به، وعظيم رغبتك في قبوله منك! وليس بالضرورة أن ينجح سعيك، أو يتم عملك، إنه يرى السعي منك وإن كان ضعيفا.

كل خير يمسه الجحود ينحط من قدره، وكل عطية لنا تحمل يقينا بما يتجاوزها. فعظام كل واحد منا هي من امتصاص صلابة العظام من أمه، وكل خلية من أجسادنا هي تذكير مستدام بنعمة آبائنا علينا، وكل هبة تحمل معها أسباب متعددة لدوام شكرها وعدم نسيان المنعم علينا بها.

أهدى فلاح شيخا سلة رطب في أول نزوله، فأعطاه الشيخ (ألف ريال) مما أثار (غضب ابنه الأكبر).

وما إن انصرف الفلاح، أظهر غضبه على دفع ألف ريال مقابل صندوق رطب لا يزيد عن عشرين ريالا!!

فقال له الشيخ: لقد خصني من بين كل الناس، ثم فرغ نفسه يلتقط أطيب ما يقع عليه نظره، وحمله على رأسه ماشيا في لظى الظهيرة، وسيرجع إلى عياله ماشيا بهذا التعب كله، ولكنك نظرت إلى الرطب ولم تنظر إلى قيمة أن يحسن بك الظن حامله ويصطفيه لك، ثم يتحمل كل هذا العناء من أجلك!.

لو أبصرت السعي فيما يبذل لك، لعظمت عندك العطية ولو قَلَّتْ.