عبدالله العولقي

من صور تغيرات التواصل الإنساني

الثلاثاء - 11 يوليو 2023

Tue - 11 Jul 2023

يقدم تطبيق الواتس أب خدمة الرسالة الجماعية، وفي ليلة عيد الأضحى الماضية بحثت عن مجموعة صممتها قبل عامين بعنوان تهاني الأعياد، رسالة واحدة فقط تم إرسالها إلى قائمة تتضمن كأقصى حد 256 صديقا وقريبا خلال ثوان معدودة، وبعدها بدأ سيل من التهاني ينهال علي ويرد التهنئة المباركة، هذا الأمر يعكس لنا مدى تطور نمطية التواصل البشري، فأذكر قبل ثلاثة عقود تقريبا كان كبار السن وعموم الناس يفرحون بقدوم الرسالة المكتوبة عبر البريد التقليدي أو مع المسافر ويعيدون قراءتها عدة مرات؛ لأنها قادمة من ابن يدرس في إحدى الجامعات البعيدة أو أب يكدح في بلاد نائية، وهذا يقودنا إلى استيعاب مدى تغير مفهوم الغربة في نظرنا، فالغربة قديما كانت صعبة بكل ما تحمله الكلمة من معنى لكنها اليوم ذات أثر أقل بكثير مما كانت تنوء بأثقالها على قلوب بني البشر، فأصبح بإمكان العامل المغترب أن يتواصل مع أسرته يوميا عبر تطبيقات مباشرة، وبالصوت والصورة أيضا، فيتحدث مع زوجته وأبنائه وأصدقائه ويطمئنهم على حاله وأحواله، بينما في السابق كانت الصورة شبه مجهولة ومبهمة عن أحوال المغتربين ومعيشتهم وبالتالي كانت آلامها وقساوتها أشد مما هي عليه اليوم بدرجة كبيرة.

في عام 1982م، تمكن المبرمج العبقري ريموند توملينسون من إرسال أول بريد الكتروني في التاريخ، واستخدم إشارة «@» للدلالة على هوية المتراسلين، وقد وقع اختياره عليها؛ لأنها كانت قليلة الاستعمال على لوحة المفاتيح قبل أن تصبح اليوم من أكثر الإشارات استخداما، كان هذا الاختراع ثورة في التواصل البشري، ومن الجدير بالذكر أن توملينسون لم يسجل هذا الاختراع باسمه فعاش ومات دون أن يحصل على براءة الاختراع!!، بعدها بعشرة أعوام، تمكن المهندس البريطاني نيل بابورث من إرسال أول رسالة نصية قصيرة (SMS)، عندما تمكن من بعث عبارة عيد ميلاد سعيد إلى الهاتف الخلوي لمدير شركة فودافون حينها ريتشارد جارفيس، هذه الرسالة اعتبرت في زمنها ثورة تكنولوجية خطيرة، لم تعد هذه الرسائل تستعمل في التواصل البشري بسبب وجود تطبيقات التواصل الاجتماعي الحديثة، ولكنها لا تزال أداة قوية جدا في مجال الأمن السيبراني للتأكد من هوية الشخص، حيث يتم إرسال رمز رقمي في كل مرة يتم فيها دخول تطبيقات البنوك والمواقع الحكومية الرسمية إلى رقم الموبايل المسجل لدى تلك الجهة كجزء من المنظومة الأمنية.

اليوم يتواصل الناس عبر تطبيقات معدودة يشتد التنافس بينها بصورة محتدة، تطبيق التيك توك الصيني أحدث ثورة جبارة في نمطية التواصل عبر فكرة «المقاطع القصيرة»، و«شاشة المقطع الكاملة»، الأمر الذي دعا شركات التقنية الأمريكية إلى تقليد هذه الخاصية الصينية بعد أن خشيت من سحب البساط عنها كون المارد الصيني بدأ يكتسح الولايات المتحدة في عقر دارها فضلا عن بقية العالم، الساحة التكنولوجية اليوم بدأت تكشر عن أنيابها في السباق على امتلاك الخوارزميات المتقدمة، وهنا يبدو الإنسان ضعيفا أمام هذه الهيمنة الكاسحة!!.

يقدم البروفيسور هيربرت سايمون أطروحاته بأن اهتمامات الإنسان أصبحت سلعة تباع وتشترى في سوق البيانات والإعلانات، فخوارزميات هذه التطبيقات قد تنتهك خصوصية الفرد وتسجل اهتماماته لتصنع له قاعدة بيانات دون إدراك منه أو وعي، ثم تبيعها في سوق الإعلانات ليجد المتصفح نفسه محاطا بسوق ضخم من الدعايات التي تتواءم مع اهتماماته ورغباته، وبهذا يرى بعض المحللين أن الإنسان أصبح عاجزا عن التخلي عن برامج التواصل الاجتماعي، وربما قد يتحول إلى ما يشبه الكائن منزوع الإرادة دون وعي منه، فهو أسير مقيد بنمطيات تقنية محكمة التكبيل، بمعنى أن تلك الخوارزميات تعي سلوك الإنسان جيدا، وتستطيع تمرير أجندات شركات التقنية بدقة عالية وبدون وعي ذلك الفرد.

وخاتمة القول.. صحيح إن التقنية خففت وطأة الغربة وأثقالها على قلوب بني البشر؛ لكنها اليوم قد تحولهم إلى منزوعي الإرادة، وتكبلهم بقيود العبودية الجديدة!!

albakry1814@