«إن الأوامر تأتي من بابا»
الثلاثاء - 04 يوليو 2023
Tue - 04 Jul 2023
عندما قال طرفة بن العبد:
«وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند»
لم يأت بجديد، فهذا خلق البشر في مشارق الأرض ومغاربها.
الشرف، العرض، الجبن والخيانة قضايا أكبر وأشنع من القتل نفسه.
والخيانة بالذات هي التي جعلت يوليوس قيصر يقول مقولته التي صارت مثلا سائرا (حتى أنت يا بروتوس)، وذلك حين شاهد صديقه ماركوس بروتوس من بين الذين انكبوا عليه لقتله.
وكان الرئيس صدام حسين يشم رائحة الخيانة كما يشم الذباب الأزرق رائحة الميت تحت الأرض من على بعد ثمانية كيلومترات، إلا أنه لم يكن قادرا على كتمان مشاعره كما قال أحد خونته، المقربين ربما، حين سئل حول كيفية معرفته بافتضاح أمره قال: استدعاني أحد القادة الكبار إلى مكتبه فوجدت صدام عنده، ومنذ دخلت حتى انصرفت لم ينطق صدام بكلمة واحدة ولم يضع عينه بعيني أبدا وكان يحدق في السقف كثيرا فأيقنت أني هالك إن لم أغادر قبل المغيب.
أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فالخيانة من وجهة نظره موضوع آخر، إنها مسألة شخصية، عقدة نفسية ربما كانت (عيرته) في الطفولة.
إنه يكره كل شيء له علاقة بالخيانة عبر التاريخ وفي كل مكان، حتى إنه لا يسميها خيانة بل يسميها (طعنة في الظهر) كما عندما أسقط إردوغان إحدى طائراته الحربية شمال سوريا.
فالخيانة كما قال في خطابه الأخير هي سبب سقوط القيصرية والهزيمة في الحرب العالمية الأولى. وهي أيضا التي دفعت بغورباتشوف ويلتسين إلى إسقاط الاتحاد السوفياتي.
حتى طليقته كانت تقول عنه: (إنه مهووس بالخيانة ودائما يضعني في اختبارات ليرى مدى تحملي). وقد وقع في أبريل الماضي مرسوما يسمح بزيادة العقوبات على مرتكبي الخيانة.
ناهيك عن هواجسه المتعلقة بالانقلاب عليه أو اغتياله، تلك الهواجس التي تسببت في انشقاق وهرب أحد ضباط الحماية الخاصة معللا ذلك بالأدوار المرهقة التي تتطلبها حمايته بدنيا وذهنيا.
وفي خضم هذه الجهود الكبيرة والعمليات الشاقة التي تقوم بها أجهزة الاستخبارات والأمن الرئاسي لطمأنة هذا الرئيس الموسوس، يدخل أحد الطباخين المتملقين ويلقي نكتة عن الخيانة.
أكاد أجزم بأن العالم كله لم ينم تلك الليلة. تملك الخوف والترقب حلفاء بوتين وخصومه على حد سواء، إذا كان بوتين يلوح بالخيار النووي ضد أوكرانيا ولأسباب أهون من الخيانة، فكيف به الآن وفي حديقة منزله جيش من الخونة.
لا أريد المبالغة لكنني لم أر بوتين يغلي أثناء إلقاء كلمته ذلك اليوم إلا مرة واحدة ليلة إعلانه دخول أوكرانيا.
طباخ بوتين لم يكن إلا اسما حركيا لمتعهد الأغذية يفغيني بريغوجين الانتهازي المتملق الذي كان يبيع النقانق عام 1990 ثم تدرج في صعود الأكتاف حتى وصل إلى الكرملين ولم يتوقف حتى أصبح من المقربين من الرئيس بوتين نفسه.
ظن الجميع أن هذا هو أقصى حد لطموحاته وأنه متطفل على نمط الحياة الأرستقراطية. حتى جاء عام 2014 وإذ بفتى النقانق قد سبق قادة الصف الأول إلى غرفة الاجتماعات يطلب أرضا ومدربين لكي يشكل مجموعة مسلحة تخوض المعارك بدلا عن روسيا، ولم يعجب كبار المسؤولين بأسلوب بريغوجين فأخبرهم أن الأوامر تأتي من بابا في إشارة إلى علاقته بالرئيس بوتين.
ومن هنا بدأت شرارة الصدام مع وزارة الدفاع وبدأت مجموعة فاجنر ببناء سمعة سيئة حول العالم، تتمثل في مساعدة الأنظمة الاستبدادية حول العالم على تثبيت حكمها مقابل تقاسم خيرات البلاد كما في أفريقيا الوسطى.
ولم يكن أحد يعرف بريغوجين هذا قبل باخموت، حيث عرفه الناس وأصبح يحظى بشعبية كبيرة بين الروس، وأحس هو بذلك وأعجبه طعم البطولة والشهرة وأراد أن يخلد اسمه مع القادة والقياصرة الفاتحين.
فبدأ منذ فبراير الماضي ينتقد وزير الدفاع ورئيس الأركان.
وعندما حسمت الأمور في باخموت بدأ الناس يتناسون أمره فأصيب بالإحباط والخذلان وأخذ يبحث عن شيء يعيد الأنظار إليه فأعلن الزحف نحو موسكو لتحريرها من خيانة وفساد وزير الدفاع ورئيس الأركان.. وفي مشهد درامي يليق بفعاليات تلك الليلة يقال أن الطباخ اتصل بالوزير لكي يقتله فقال الوزير: إنني بجوار الرئيس الآن وقد فرغ من كلمته المتلفزة حيث وصف أفعالك بالخيانة، وأنت تعرف كم يكره الرئيس الخيانة.. أليس كذلك؟ والآن سأغلق الهاتف فأنا مضطر لاستقبالكم بالكاتيوشا.. إن الأوامر تأتي من بابا.. هل نسيت؟!
لم أحضر هذا المشهد حقيقة لأنني شعرت بخيبة أمل ولا مبالاة كبيرة عندما سمعت أن البيت الأبيض أعلن الرئيس بايدن ونائبته هاريس يراقبان ما يحدث بقلق.
MBNwaiser@
«وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند»
لم يأت بجديد، فهذا خلق البشر في مشارق الأرض ومغاربها.
الشرف، العرض، الجبن والخيانة قضايا أكبر وأشنع من القتل نفسه.
والخيانة بالذات هي التي جعلت يوليوس قيصر يقول مقولته التي صارت مثلا سائرا (حتى أنت يا بروتوس)، وذلك حين شاهد صديقه ماركوس بروتوس من بين الذين انكبوا عليه لقتله.
وكان الرئيس صدام حسين يشم رائحة الخيانة كما يشم الذباب الأزرق رائحة الميت تحت الأرض من على بعد ثمانية كيلومترات، إلا أنه لم يكن قادرا على كتمان مشاعره كما قال أحد خونته، المقربين ربما، حين سئل حول كيفية معرفته بافتضاح أمره قال: استدعاني أحد القادة الكبار إلى مكتبه فوجدت صدام عنده، ومنذ دخلت حتى انصرفت لم ينطق صدام بكلمة واحدة ولم يضع عينه بعيني أبدا وكان يحدق في السقف كثيرا فأيقنت أني هالك إن لم أغادر قبل المغيب.
أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فالخيانة من وجهة نظره موضوع آخر، إنها مسألة شخصية، عقدة نفسية ربما كانت (عيرته) في الطفولة.
إنه يكره كل شيء له علاقة بالخيانة عبر التاريخ وفي كل مكان، حتى إنه لا يسميها خيانة بل يسميها (طعنة في الظهر) كما عندما أسقط إردوغان إحدى طائراته الحربية شمال سوريا.
فالخيانة كما قال في خطابه الأخير هي سبب سقوط القيصرية والهزيمة في الحرب العالمية الأولى. وهي أيضا التي دفعت بغورباتشوف ويلتسين إلى إسقاط الاتحاد السوفياتي.
حتى طليقته كانت تقول عنه: (إنه مهووس بالخيانة ودائما يضعني في اختبارات ليرى مدى تحملي). وقد وقع في أبريل الماضي مرسوما يسمح بزيادة العقوبات على مرتكبي الخيانة.
ناهيك عن هواجسه المتعلقة بالانقلاب عليه أو اغتياله، تلك الهواجس التي تسببت في انشقاق وهرب أحد ضباط الحماية الخاصة معللا ذلك بالأدوار المرهقة التي تتطلبها حمايته بدنيا وذهنيا.
وفي خضم هذه الجهود الكبيرة والعمليات الشاقة التي تقوم بها أجهزة الاستخبارات والأمن الرئاسي لطمأنة هذا الرئيس الموسوس، يدخل أحد الطباخين المتملقين ويلقي نكتة عن الخيانة.
أكاد أجزم بأن العالم كله لم ينم تلك الليلة. تملك الخوف والترقب حلفاء بوتين وخصومه على حد سواء، إذا كان بوتين يلوح بالخيار النووي ضد أوكرانيا ولأسباب أهون من الخيانة، فكيف به الآن وفي حديقة منزله جيش من الخونة.
لا أريد المبالغة لكنني لم أر بوتين يغلي أثناء إلقاء كلمته ذلك اليوم إلا مرة واحدة ليلة إعلانه دخول أوكرانيا.
طباخ بوتين لم يكن إلا اسما حركيا لمتعهد الأغذية يفغيني بريغوجين الانتهازي المتملق الذي كان يبيع النقانق عام 1990 ثم تدرج في صعود الأكتاف حتى وصل إلى الكرملين ولم يتوقف حتى أصبح من المقربين من الرئيس بوتين نفسه.
ظن الجميع أن هذا هو أقصى حد لطموحاته وأنه متطفل على نمط الحياة الأرستقراطية. حتى جاء عام 2014 وإذ بفتى النقانق قد سبق قادة الصف الأول إلى غرفة الاجتماعات يطلب أرضا ومدربين لكي يشكل مجموعة مسلحة تخوض المعارك بدلا عن روسيا، ولم يعجب كبار المسؤولين بأسلوب بريغوجين فأخبرهم أن الأوامر تأتي من بابا في إشارة إلى علاقته بالرئيس بوتين.
ومن هنا بدأت شرارة الصدام مع وزارة الدفاع وبدأت مجموعة فاجنر ببناء سمعة سيئة حول العالم، تتمثل في مساعدة الأنظمة الاستبدادية حول العالم على تثبيت حكمها مقابل تقاسم خيرات البلاد كما في أفريقيا الوسطى.
ولم يكن أحد يعرف بريغوجين هذا قبل باخموت، حيث عرفه الناس وأصبح يحظى بشعبية كبيرة بين الروس، وأحس هو بذلك وأعجبه طعم البطولة والشهرة وأراد أن يخلد اسمه مع القادة والقياصرة الفاتحين.
فبدأ منذ فبراير الماضي ينتقد وزير الدفاع ورئيس الأركان.
وعندما حسمت الأمور في باخموت بدأ الناس يتناسون أمره فأصيب بالإحباط والخذلان وأخذ يبحث عن شيء يعيد الأنظار إليه فأعلن الزحف نحو موسكو لتحريرها من خيانة وفساد وزير الدفاع ورئيس الأركان.. وفي مشهد درامي يليق بفعاليات تلك الليلة يقال أن الطباخ اتصل بالوزير لكي يقتله فقال الوزير: إنني بجوار الرئيس الآن وقد فرغ من كلمته المتلفزة حيث وصف أفعالك بالخيانة، وأنت تعرف كم يكره الرئيس الخيانة.. أليس كذلك؟ والآن سأغلق الهاتف فأنا مضطر لاستقبالكم بالكاتيوشا.. إن الأوامر تأتي من بابا.. هل نسيت؟!
لم أحضر هذا المشهد حقيقة لأنني شعرت بخيبة أمل ولا مبالاة كبيرة عندما سمعت أن البيت الأبيض أعلن الرئيس بايدن ونائبته هاريس يراقبان ما يحدث بقلق.
MBNwaiser@