علي قطب

رحيل عائشة أبو النور.. الإبداع والقيمة والزمن

الثلاثاء - 04 يوليو 2023

Tue - 04 Jul 2023

قبل أيام رحلت المبدعة عائشة أبو النور، والتي كانت كل كتابة لها بمثابة رحلة نحو حلم يعزز مفهوم الحرية في الواقع، فقد اختارت عائشة هذا المفهوم النابع من مرحلة تكوينها الثقافي في سياق ثري حافل بالأفكار على المستويين العربي والعالمي، فقد اختارت الكتابة عن الحرية والوقوف على سؤال يلح عليها ليقودها إلى ثنائية الاستقرار والانطلاق أو الاستسلام والخروج.

لقد أدركت عائشة منذ البداية أن الحرية الفردية هي إرادة الاختيار التي يجب أن تكون موجودة لدى الإنسان بصفة عامة وأن المرأة بصفة خاصة تفتقد هذه الحرية، ومن هذه النقطة تتحرك إلى مربع آخر وهو الضعف الإنساني للرجل والمرأة على حد سواء، وتضع ضعف الرجل في أحيان ليست بالقليلة موضع الرؤية السردية كما في كتابها "والرجال يخافون أيضا"، فهى حاولت تلمس أزمة الفرد في سياق اجتماعي وإنساني شامل لتضع أمام القارئ تفاصيل النفس الإنسانية التي تحتاج إلى التأمل والتفكير. ولعل عائشة أبو النور تلتقي مع غادة السمان في جانب مهم وهو أزمة الذات الفردية التي كانت موضع مناقشة الوجودية الغربية فترة تعلم عائشة بالمدرسة الفرنسية وقسم الصحافة بكلية الآداب.

إن العنوان عند عائشة أبو النور مفتاح نصي أو جسر للعبور إلى عالمها الإبداعي يضئ النور إلى القارئ كي يتفاعل مع كلماتها، هذه الكلمات السردية التي تحمل شحنات نفسية عالية، ففي روايتها "والإمضاء سلوى" نجد حضورا بارزا وقويا للذات الفردية النسائية، والعنوان هنا توقيع البطلة باسمها وحضور شخصيتها لتعلن مسؤولية الشخصية عن كتابتها، أما عنوان "بيني وبينك أسرار: أحبك... لا... أحبك" فتحرص فيه الراوية على أن تكون في موضع الفاعل مع إظهار خصوصية العلاقة بين المبدع والمتلقي في المقطع الأول من العنوان السابق، أما عنوان "مسافر في دمي" فيشير بوضوح إلى الذات، هذه الذات بكل ما فيها من حيوية وذهنية تحاول استيعاب نفسها وموضوعها.

إن أسلوب عائشة أبو النور يفيد من أشكال الإبداع الفني المختلفة من موسيقى وإضاءة وظلال وألوان، فكتابتها القصصية عبارة عن حوار بين الفنون المختلفة، ويأتي أسلوبها كنتاج لوعيها الإبداعي المعتمد على إطلاق العنان للحواس لكي تكتشف الواقع المحيط ومن ثم تدركه بشكل حقيقي لا شكل ذهني محض.

نرى أيضا في أدب عائشة أبو النور توظيف الصوت والصورة لنقل مفاهيم إدراكية ونقد سلبيات سلوكية والجدل مع بعض ما يطرحه الواقع على الذات من تجارب تتطلب منها القوة النفسية للدفاع عن الوجود. فالإبداع القصصي عند عائشة يخاطبنا بالدراما ووجهة النظر لكي نسمع ونرى في هذه البنيات التمثيلية تلك العوالم التي تلتقطها حواس الذات المبدعة من الفضاء المحيط كي تضعها في وعينا موضع التأمل فنتعرف على بعض ما يحدث لنا، ونكتشف سلبيات ذاتنا ونتعلم من الكائنات التي تشاركنا الوجود وهي أمم أمثالنا.

تقدم عائشة في عالمها الإبداعي كثيرا من النماذج النسائية المغتربة، وتتعدد أنواع الاغتراب في هذا العالم بالنسبة للمرأة: فهناك الاغتراب العاطفي الناتج من عدم محاولة الرجل فهم عواطف المرأة، وهناك الاغتراب النفسي الناتج من عدم فهم المرأة لذاتها، وهناك الاغتراب الاجتماعي الناشئ من محاولة احتفاظ المرأة بمنظومتها القيمية وسط سياق اجتماعي تسيطر عليه مفاهيم جامدة جاهزة، وهناك اغتراب حضاري ناتج من خروج المرأة إلى آفاق العالم الغربي للعمل والتعلم.

إن عائشة أبو النور القاصة الروائية كاتبة المقال والحوارات الصحفية تتميز بالذكاء الاتصالي، يظهر ذلك جليا من حواراتها المميزة مع توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وزكي نجيب محمود وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس وغيرهم من الأسماء البارزة.

كان رحيل عائشة أبو النور الصامت غريبا، فهذه المبدعة التي عشقت الكلمة والحرية مازال يحتاج أدبها إلى أقلام نقدية واعية للكتابة عنه وتحليله والوقوف على معانيه، ولعل المتوقع أن انتهاء مشروع الإنسان الأدبي بوفاته يجعل الكثيرين يتوقفون عنده لتأمله والكتابة عنه، وعائشة ليسة شخصية فردية فقط بل هي عصر من تحولات الربع الأخير من القرن العشرين بكل توجهاته الفكرية والاجتماعية وربما كان غيابها الأخير عن الساحة معبرا عن اغترابها فهي لم تستطع التكيف مع متغيرات العصر.