فهد إبراهيم المقحم

تقييم أدائك بعد رحيلك!

الاثنين - 03 يوليو 2023

Mon - 03 Jul 2023

ودعنا الأسابيع الماضية الدكتور عبدالرحمن بن هادي الشمراني - رحمه الله - بعد معاناة طويلة مع المرض، وقد ترك إرثا علميا وأثرا إيجابيا في نفوس من تعامل معه طيلة مراحل حياته العلمية والعملية والشخصية.

حصل الدكتور عبدالرحمن - رحمه الله - على درجة البكالوريس في اللغة العربية وآدابها من جامعة الملك عبدالعزيز (فرع مكة المكرمة) عام 1398هـ، وفي عام 1994م انتهت بعثته الدراسية بعد حصوله على درجتي الماجستير والدكتوراه في لغات الشرق الأدنى وآدابها من جامعة إنديانا، ثم تعاقب على عدد من المناصب المهنية واللجان العلمية والإدارية، إلى أن انتهى به المطاف مديرا للاختبارات اللغوية في المركز الوطني للقياس.

وللفقيد - رحمه الله - عدد من الإسهامات العلمية، كان من أبرزها المشاركة في تأليف معجم الطالب المدرسي، ودليل توحيد ضوابط الرسم الإملائي للكتابة العربية. كما قدم -رحمه الله- عددا من المحاضرات والدروس في مجال تخصصه وعمله.

لا شك أن الناس شهداء الله في أرضه، وما يشهدون به للمرء بعد رحيله أقرب للصحة والحيادية. لما مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيرا، قال عليه الصلاة والسلام: «وجبت وجبت»، ثم مُرَّ بجنازة أخرى فأثنوا عليها شرا، فقال عليه الصلاة والسلام: «وجبت وجبت»، ثم قيل له: ما وجبت وجبت؟ قال عليه الصلاة والسلام: «هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرّا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض». متفق عليه.

ولقد سمعنا عن الفقيد - رحمه الله - خيرا كثيرا من رؤسائه وزملائه ومرؤوسيه، فهذا مثلا ما ذكره الرئيس التنفيذي السابق لهيئة تقويم التعليم والتدريب، سمو الأمير الدكتور فيصل بن عبدالله آل سعود، عن الدكتور عبدالرحمن - رحمه الله - بقوله: «كان من أنبل من تعاملت معهم وأنزههم، ولم أسمع منه يوما حديثا في عِرض أحد أو طلبا لذاته أو مصلحته».

ومن الأمثلة كذلك ما ذكره صاحبه في مسيرته العلمية والعملية الدكتور رشود الخريف بقوله: «رجل تميز بالقيم النبيلة والأخلاق العالية، عرفته أثناء البعثة، وعملت معه بجامعة الملك سعود، ومع مرور الزمن يؤكد أبو عبدالله - رحمه الله - سمو أخلاقه وثبات قيمه ورقي تعامله مع كل من لقيه». ومما قيل أيضا عن الفقيد - رحمه الله - ما ذكره الدكتور محمد الصائغ بقوله: «منذ عرفته في البعثة وحتى وفاته وهو صاحب الخلق الرفيع، والتواضع الجم، ضليع في تخصصه، وقد أحبه كل من عرفه».

وعن حبه لبذل الخير للغير، ذكر عنه صاحبه أيام البعثة الدكتور صالح الصنيع: «كان نعم من يخدم إخوانه عموما، والطلبة المبتعثين الجدد خصوصا، فيبذل لهم كل ما يحتاجونه». وعن حسن تعامله - رحمه الله - مع جيرانه، وصفه الدكتور علي التركي موجزا بقوله: «عرفته بشوشا يقابلك بوجه طلق، دائم الابتسامة، وقد جاورته لعدة سنوات ولم أعرف عنه إلا خصالا حميدة».

وقد شهد له - رحمه الله - عدد من المختصين بتميزه في تخصصه، ومن ذلك ما وصفه الدكتور إبراهيم الشمسان بالنحوي اللغوي المبدع، وما ذكره الدكتور عبدالمحسن العقيلي بقوله: فقدنا رجلا كبيرا في خلقه ونبله وسماحته وعلمه، وكذلك ما حكى عنه الدكتور أيمن العليان: جمع الله له علما عميقا في اللغتين: العربية والإنجليزية، مع طيب معشر وسلامة صدر لإخوانه.

وقد كان - رحمه الله - لا يبخل بنشر علمه، ومن ذلك ما ذكره الدكتور ماجد السبعان بقوله: كان كريما بعلمه، يفرح بنقله إلى غيره، وخلال مزاملتي له في العمل عقدت معه اتفاقا بأن نستثمر وقت الراحة في إعراب آية واحدة من القرآن الكريم، فكنت أُعرِبُ الآية، فيوافقني على إعرابي أو يُقوِّمه بتعقيبات مليئة بالفوائد والدرر اللغوية النفيسة.

لقد سعدت بمعرفة الفقيد - رحمه الله، ونعمت بمزاملته لسنوات طوال، فقد كان متميزا في علمه، ومخلصا في عمله، ومحسنا في تعامله، وجميلا في أدبه وخلقه، لا تلقاه إلا بشوشا مبتسما ناصحا. كان كثيرا ما يردد أهمية الصدق والأمانة في أداء الأعمال، وكنا نرى أثر ذلك على عمله. وكان من أوائل من يأتي للصلاة وآخر من يخرج منها، وقد نبهني - رحمه الله - مرة بقوله: انتبه أن تسرقك الدنيا وأعمالها عن تأخير موعد لقائك بربك، فصلتك به مفتاح نجاحك وفلاحك.

وقبل سفري لدراسة مرحلتي الماجستير والدكتوراه في المملكة المتحدة حرص على لقائي، وأسدى علي حينها عددا من النصائح والفرائد التي استلهمها من تجربته في الابتعاث، ثم ختم كلامه بقوله: أنا متأكد من تميزك الدراسي، وتمسكك بهويتك الإسلامية والوطنية، لكني أتمنى أن تستثمر وجودك هناك بنفع غيرك، علّم هذا لغتك، وساعد آخر بعلمك، ومد يد العون للمحتاج بمعرفتك وخبرتك.

عاش - رحمه الله - عامه الأخير في رحلة مع الألم، متنقلا بين أمراض متفرقة، حتى وافته المنية يوم الأربعاء 25 من شهر ذي القعدة لعام 1444. وقد وصف حاله في آخر حياته رفيق دربه الدكتور بدر البسام بقوله: عشت معه رحلة مرضه الأخير، ولم أجد منه إلا الصبر والقبول بقضاء الله وقدره، بالرغم من شدة الألم وقسوة العلاج. وهذا من لطف الله ورحمته، فإنه «إذا أحب عبدا ابتلاه»، و»ما أصاب المسلم من هم، ولا غم، ولا نصب، ولا وصب، ولا أذى، حتى الشوكة إلا كفر الله بها من خطاياه».

هذه بعض اللمحات عن فقيدنا - رحمه الله، وهي صورة مصغرة لما يسمى في العلم الحديث بتقييم 360 درجة (360-dgree feedback)، وهو إجراء لتقييم أداء الفرد في جوانب متفرقة تتعلق بالمهارات والسلوكيات والجدارات، من خلال آراء تقدم بسرية تامة للدقة والحيادية من قبل من يعملون معه من مرؤوسين، وأقران، وزملاء، ورؤساء، بالإضافة إلى التقييم الذاتي من قبل الفرد نفسه.

ما أروع أن يهتم الإنسان بنفسه، يتقن تخصصه، ويبدع في عمله، ويعطي كل ذي حق حقه، ويراقب عن كثب أداءه وسلوكه في بيته وحيه وعمله ومع كل من لقيه، فيعزز نقاط قوته، ويقوم نقاط ضعفه، فنجاح المرء نجاح له ولأسرته ولجهة عمله ووطنه.

عزيزي القارئ: اليوم عمل بلا حساب، وغدا حساب بلا عمل، فاغتنم يوم عملك ليوم حسابك، وليكن ديدنك في يومك ما أخبر به الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»، مع الاستفادة الفاعلة من آراء الصادقين المخلصين عن أدائك، إذ لن ينفعك المنصب والجاه والمال والمتملق بعد رحيلك، ولن يبقى لك إلا ما قدمت من عمل!

@moqhim