مفارقات الأيديولوجيا والحضارة
الاثنين - 03 يوليو 2023
Mon - 03 Jul 2023
من مفارقات البشرية أن بدايات القرن الماضي شهدت نهضة علمية وحضارية غير مسبوقة في تاريخ الإنسان، وفي نفس الوقت اندلعت خلاله حربان عالميتان مدمرتان راح ضحيتها ملايين البشر، والحديث هنا عن الأيديولوجيا الضيقة التي كانت سببا رئيسا لتلك الحروب العبثية.
حينها قدمت ألمانيا للعالم كوكبة من عظام المبدعين في الفكر والفلسفة والموسيقى والأدب والعلوم، لكن شخصا متهورا برتبة متدنية يدعى أدولف هتلر وصل إلى سدة الحكم فأجج أيديولوجية نازية ضيقة وأصدر خطابات شعبوية عنصرية ليقود ألمانيا إلى هاوية الحروب والدمار!!
وذات الأمر يقال عن إيطاليا التي أهدت العالم أسماء مبدعة في مجالات الرسم والنحت والموسيقى لتجد نفسها في براثن الأيديولوجية الفاشية التي تريد إحياء أطلال الإمبراطورية الرومانية القديمة، وبخطابات شعبوية خسرت روما الحرب واتجهت إلى الدمار.
انتصر الاتحاد السوفيتي في الحرب مع الحلفاء لكنه كان يعاني أيضا من أيديولوجية شيوعية ضيقة والتي ظلت صامدة لمدة 45 سنة بعد الحرب العالمية الثانية ثم تهاوت وتلاشت؛ لأن أسسها لم تعد تستطع حمل أثقال أيديولوجيتها، وهنا خرجت الحضارة الغربية منتصرة وأصبح العالم بقطبية واحدة تقودها الولايات المتحدة التي قدمت أنموذجها لاستقطاب جميع دول العالم تحت مظلتها، وأصبح مفكروها يتحدثون عن نهاية التاريخ كما عبر فرانسيس فوكوياما في أطروحاته.
مفارقات الحضارة الغربية كثيرة، وآخرها ما حصل عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، فعلى الرغم من أنها أكثر حضارة إنسانية تحترم الموهبة وتستقطب الإبداع والمبدعين إلا أن عداءها مع روسيا جعل ألمانيا مثلا تستبعد الموسيقار فاليري جيرجييف من قيادة أوركسترا ميونخ الفيلهارموني، كما تم منع وتداول أعمال وروائع الكتاب الروس الكبار ولو كانوا من عيار تولستوي وجوجول وأنطوان تشيخوف وديستويفسكي وبوشكين في الكثير من الدول الأوروبية، وهذا يعبر عن مفارقة كبيرة في تاريخ الحضارة الأوروبية الحديثة.
العامل الأساسي الذي ساعد الحضارة الغربية على صمودها أنها بعيدة عن أطر الأيديولوجيا الضيقة وتتمتع بمساحات مرنة للنقد والمراجعة والتغيير، وهذا ما جعل البعض يرى استحالة اندثارها كون رسمها البياني لا يحمل هيئة الدائرة التي عبر عنها المؤرخ العربي ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، ولكنها حضارة ذات اتجاه أمامي مستقيم، كما بدأ الإعلام الغربي يتحدث عن الثنائية الشرطية التلازمية، وأعني الديمقراطية تؤدي إلى الازدهار الاقتصادي، بيد أن ظهور الصين اليوم بهذه الصورة الإعجازية في مواجهة الحضارة الغربية أعاد الحسابات تجاه مفهوم الأيديولوجيا والحضارة.
عندما بدأت النهضة الصينية الحديثة في نموها الإعجازي راهن بعض اقتصاديي الغرب أن ازدهار الصين واندماجها في أسواق التجارة العالمية سيجعلها ضمن نطاق الليبرالية الغربية لكن هذا لم يحدث على الإطلاق، فسياسيا ظلت الأيديولوجيا الشيوعية هي المهيمنة على سلطة القرار السياسي، لكن المعجزة أتت من بوابة الاقتصاد، فقد تمكن النموذج الصيني من انتشال 800 مليون صيني من أدقاع الفقر إلى ساحات الطبقة المتوسطة، واستطاعت بكين أن تصبح الاقتصاد الثاني عالميا وأن تتفوق على الغرب في مجالات عديدة، وهذه التجربة الصينية لا تتواجد في دولة أخرى غيرها، لكنها في المقابل أثبتت خطأ الفكرة الغربية حول تلازمية شرط الديمقراطية والازدهار الاقتصادي.
الأنموذج الغربي مستنسخ في دول خارج النطاق الغربي، وقريبة جدا من الصين كاليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، أما النموذج الصيني فلا يوجد إلا في بكين وحدها، لكن المفارقة أن النموذج الغربي يترنح كثيرا اليوم في علاقاته البينية، ويتراجع في بعض المجالات الصناعية والاقتصادية لصالح النموذج الصيني، النموذجان يستندان على مقومات حضارية، وهذه نقطة تحسب للمفكر الأمريكي صموئيل هنتنجتون الذي تنبأ في تسعينيات القرن الماضي بهذا الصدام الحضاري.
albakry1814@
حينها قدمت ألمانيا للعالم كوكبة من عظام المبدعين في الفكر والفلسفة والموسيقى والأدب والعلوم، لكن شخصا متهورا برتبة متدنية يدعى أدولف هتلر وصل إلى سدة الحكم فأجج أيديولوجية نازية ضيقة وأصدر خطابات شعبوية عنصرية ليقود ألمانيا إلى هاوية الحروب والدمار!!
وذات الأمر يقال عن إيطاليا التي أهدت العالم أسماء مبدعة في مجالات الرسم والنحت والموسيقى لتجد نفسها في براثن الأيديولوجية الفاشية التي تريد إحياء أطلال الإمبراطورية الرومانية القديمة، وبخطابات شعبوية خسرت روما الحرب واتجهت إلى الدمار.
انتصر الاتحاد السوفيتي في الحرب مع الحلفاء لكنه كان يعاني أيضا من أيديولوجية شيوعية ضيقة والتي ظلت صامدة لمدة 45 سنة بعد الحرب العالمية الثانية ثم تهاوت وتلاشت؛ لأن أسسها لم تعد تستطع حمل أثقال أيديولوجيتها، وهنا خرجت الحضارة الغربية منتصرة وأصبح العالم بقطبية واحدة تقودها الولايات المتحدة التي قدمت أنموذجها لاستقطاب جميع دول العالم تحت مظلتها، وأصبح مفكروها يتحدثون عن نهاية التاريخ كما عبر فرانسيس فوكوياما في أطروحاته.
مفارقات الحضارة الغربية كثيرة، وآخرها ما حصل عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، فعلى الرغم من أنها أكثر حضارة إنسانية تحترم الموهبة وتستقطب الإبداع والمبدعين إلا أن عداءها مع روسيا جعل ألمانيا مثلا تستبعد الموسيقار فاليري جيرجييف من قيادة أوركسترا ميونخ الفيلهارموني، كما تم منع وتداول أعمال وروائع الكتاب الروس الكبار ولو كانوا من عيار تولستوي وجوجول وأنطوان تشيخوف وديستويفسكي وبوشكين في الكثير من الدول الأوروبية، وهذا يعبر عن مفارقة كبيرة في تاريخ الحضارة الأوروبية الحديثة.
العامل الأساسي الذي ساعد الحضارة الغربية على صمودها أنها بعيدة عن أطر الأيديولوجيا الضيقة وتتمتع بمساحات مرنة للنقد والمراجعة والتغيير، وهذا ما جعل البعض يرى استحالة اندثارها كون رسمها البياني لا يحمل هيئة الدائرة التي عبر عنها المؤرخ العربي ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، ولكنها حضارة ذات اتجاه أمامي مستقيم، كما بدأ الإعلام الغربي يتحدث عن الثنائية الشرطية التلازمية، وأعني الديمقراطية تؤدي إلى الازدهار الاقتصادي، بيد أن ظهور الصين اليوم بهذه الصورة الإعجازية في مواجهة الحضارة الغربية أعاد الحسابات تجاه مفهوم الأيديولوجيا والحضارة.
عندما بدأت النهضة الصينية الحديثة في نموها الإعجازي راهن بعض اقتصاديي الغرب أن ازدهار الصين واندماجها في أسواق التجارة العالمية سيجعلها ضمن نطاق الليبرالية الغربية لكن هذا لم يحدث على الإطلاق، فسياسيا ظلت الأيديولوجيا الشيوعية هي المهيمنة على سلطة القرار السياسي، لكن المعجزة أتت من بوابة الاقتصاد، فقد تمكن النموذج الصيني من انتشال 800 مليون صيني من أدقاع الفقر إلى ساحات الطبقة المتوسطة، واستطاعت بكين أن تصبح الاقتصاد الثاني عالميا وأن تتفوق على الغرب في مجالات عديدة، وهذه التجربة الصينية لا تتواجد في دولة أخرى غيرها، لكنها في المقابل أثبتت خطأ الفكرة الغربية حول تلازمية شرط الديمقراطية والازدهار الاقتصادي.
الأنموذج الغربي مستنسخ في دول خارج النطاق الغربي، وقريبة جدا من الصين كاليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، أما النموذج الصيني فلا يوجد إلا في بكين وحدها، لكن المفارقة أن النموذج الغربي يترنح كثيرا اليوم في علاقاته البينية، ويتراجع في بعض المجالات الصناعية والاقتصادية لصالح النموذج الصيني، النموذجان يستندان على مقومات حضارية، وهذه نقطة تحسب للمفكر الأمريكي صموئيل هنتنجتون الذي تنبأ في تسعينيات القرن الماضي بهذا الصدام الحضاري.
albakry1814@