بسمة السيوفي

رنين

الثلاثاء - 20 يونيو 2023

Tue - 20 Jun 2023

لألم في الظهر كان لا بد من القبول بدخول ذاك الأنبوب الخانق الذي يصدر أصواتا كالطبول الهادرة، كانت لها معه تجارب سابقة منذ عقدين، كانوا لا يدخلونها إلا بعد التخدير الكامل.

شكل الأنبوب وضيق الفتحة وهي ممددة، يشعرها كأنها داخل خندق مظلم، فتتسارع دقات قلبها وينقبض صدرها حتى توشك أن تختنق.

شعور الرهبة القديم هو ما تتذكره على مضض كلما طلب الطبيب إجراء فحص الرنين المغناطيسي، وفي الجهاز المغلق وليس المفتوح؛ لأنه أدق في النتائج. وقد طلب هذه المرة أن يتم التصوير بالصبغة الملونة لتشخيص الحالة تماما.

كان تحديا لا مفر منه؛ فإما أن تنجح في اجتياز خوفها، وإما أن تستمر معاناتها مع آلام الظهر بما لا تطيق، دخلت إلى غرفة تبديل الملابس، يقبع خلف الجدار جهاز الرنين، خرجت لترمقه شذرا كأنها القربان المغصوب الذي يقدم للوحش الجائع، المكان بارد والإضاءة خافتة، ومشاعرها ترسم سيناريو الأفكار والتوقعات.. لكنها مصرة اليوم على قهر هذا الشعور، فهي لم تجرب جهاز الرنين المغناطيسي منذ أكثر من 15 عاما، يا ترى هل رحل الرعب منها؟ هل أصبح الجهاز أكثر سرعة ورحمة؟ توقعات مجهولة والاكتشاف بعد قليل.

تمددت ببطء.. لا توجد سماعات في هذا الجهاز فقط سدادات مطاطية للأذن، كما أخبروها، حيث تم تركيب الجهاز من أسبوعين وللحظ هو نوع جديد بأنبوب أضيق. سيحتضنها الوحش لمدة 25 دقيقة، وفي آخر دقائق ستحضر الممرضة لتحقنها بالصبغة الملونة.. لذلك قررت أن تغمض عينيها ولا تفتحهما مهما حدث، فلا تريد رؤية سقف الأنبوب بتاتا، غطوها بالأبيض، طلبت واحدا آخر، الرهبة برودتها أكبر، أمسكت بيدها كرة المطاط الخاصة بالطوارئ بعد أن تمددت، وبسم الله تحرك ذراع الوحش نحو الداخل.

أصبحت في جوف الجهاز الآن وستجرب كل استراتيجيات السلوك المعرفي التي قرأت عنها، بدأت بقراءة سورة قريش وتوقفت عند «آمنهم من خوف» لترددها 7 مرات، تؤمن هي ببركة هذه السورة وهذه الآية على قلبها وروحها، ثم تذكرت دراسة قرأت عنها تقول إن محاكاة شعور الابتسامة بتعابير الوجه تؤدي إلى إثارة إحساس السعادة في عقولنا، فقامت برفع الشفاه والوجنتين تجاه الأذنين، شدت شفتيها أكثر إلى أقصى الزوايا عل وعسى، حتى تزييف الابتسامة قد يؤثر في مزاجنا، يا ترى أية سعادة ترتجى داخل أحضان الخنادق!؟

بدأ الوحش دق الطبول المغناطيسية.. دقات بطيئة.. ثم متسارعة.. هدوء.. ثم دقات متباعدة ثم هدوء.. ليتحرك لسان الجهاز أكثر إلى الداخل.. فالتصوير لكامل سلسلة الظهر.. صبر جميل وأفضل الأخلاق التصبر.

مضت 7 دقائق إلى الآن وستهون الدقائق الباقية، أصوات الرنين ذات إيقاع متناغم يدفعك نحو تخيل حفل راقص أمام الوحش وربما معه، الخطوة الأولى نحو مواجهة المشاعر وتقبلها هي التخيل، خاصة أن العيون كانت مغمضة، الأنفاس عادت منتظمة والكرة المطاطية بانتظار إشارة من أصبعها.

يبدع العقل عندما يتخفف من الضغط حتى لو بالحيلة، مضت 10 دقائق إلى الآن.. تبسم وحفل راقص، وهي في عرين المواجهة وعليها التركيز على الشعور منفصلا عن الحدث والأفكار المرتبطة به.

تخيلت في تلك اللحظة أنها ترتدي فستانا مخمليا أحمر، وأنها تتمايل مع إيقاع الجهاز، حتى أنه تحول بشحمه ولحمه إلى راقص مستعد للمشاركة في حركاتها الإيقاعية المتناغمة مع دق الطبول.

كانت مستغرقة لأنها في واقع الحياة لا تجيد الرقص البتة، أمام الجمهور كان الرقص الكلاسيكي، ثم الكابوكي الياباني، ثم تشاركت معه المصري والتانجو، والسالسا، بينما حنجرتها تردد لحنا مختلفا كل مرة، ولم تفق من هذه الهرطقات إلا على حركة الجهاز وهم يخرجونها لتأخذ إبرة الصبغة الملونة.

يا خسارة لم يتبق سوى بضع دقائق على هذه التجربة الغريبة وقد قطعوا عليها مشهد الخاتمة، تصفيق الجمهور والورود تلقى عند رجليها.

العيون شبه مغمضة، يدها ممدودة والممرضة تفتش عن عروقها الخجولة دون جدوى، سألت الممرضة عن اسمها؟ قالت: جهاد، لا تريد ألما الآن فقد كانت في حفلة راقصة، غرزت في يدها الإبرة ولم تنجح.. اعتذرت وحاولت، التجربة كلها مجاهدة نفس مختلطة برقص على طبول في حضرة وحش يدهشه اللون الأحمر.

انغرزت الإبرة أخيرا في عرق مرعوب، وسرت الصبغة ببرودة زاحفة نحو ذراعها ثم قلبها وعمودها الفقري، حان موعد العودة إلى الداخل، وبدأ الدق من جديد، عادت للساحة وكان التصفيق الآن كاسحا عارما، والورود الحمراء تلقى عليها بالعشرات والوحش يصفق لها أيضا، أربع دقائق من الاستماع إلى التصفيق فرحا بالإنجاز بينما تتغلغل الصبغة في العروق، ثم انتهى كل شيء، خرجت وفتحت عينيها، جلست على طرف السرير الممتد إلى الخارج. وقفت على رجليها ثم نظرت إلى الجهاز تودعه، فهي لن تخشى تكرار التجربة من جديد.. وربما ستفتح عينيها في المرة القادمة.

يقولون إننا ننتقل عبر 16 مستوى من الوعي في كل تجربة مخيفة، أدناها مستوى «وعي العار» وهو أننا نخجل من الاعتراف بشعور الخوف أو القلق أمام الآخرين، وحتى أمام أنفسنا، حتى يتحول إلى رهاب ذي علامات فسيولوجية واضحة، وأعلى مستوى هو «الشعور بالسلام» ويعني أننا نتدرج في سلوكيات التعامل مع هذا الشعور إلى أن نسمح لأنفسنا بتجربة مشاعر مختلفة عبر مواقف مغايرة حتى نصل إلى مرحلة التخلي عن المشاعر السلبية أو السيئة.

ولا يصل أحد لمستوى الوعي المرتفع هذا دون أن يبذل مجهود مقصودا ليصل إلى ما يسمونه بالثبات الداخلي.

نحن أطباء أنفسنا عندما ندرك المشاعر ونعترف بوجودها ثم نواجهها بالتدريج.. أفكارنا هي التي تشفينا أو تشقينا.. رهبة البدايات طبيعية.. ونحن الذين نقرر كيف نشفى من مشاعر القلق والأفكار السلبية، نحن الذين نتخلى ونحن الذين نسمح بالرحيل.

smileofswords@