ريما رباح

الحج.. ملحمة العباقرة

الاثنين - 12 يونيو 2023

Mon - 12 Jun 2023

التحدي اللوجستي الأعظم لفن إدارة الحشود في العالم هو (الحج). الأمر ليس مجرد إدارة للحشود من بلد واحد أفراده متجانسون يتخاطبون بنفس اللغة ويحملون نفس الثقافة.. الحج شعيرة مقدسة تحمل في مفرداتها جملا متشعبة من التحديات الضخمة تكمن في حتمية القدرة عند المنظمين على احتواء كافة التباينات والمفاجآت، المشاهد المهيبة التي يشاهدها كوكب الأرض في أيام معدودة وساعات محددة تحمل في خلفياتها حشودا مليونية من البشر قادمون من بلدان مختلفة ويتحدثون لغات مختلفة ويحملون ثقافات مختلفة، هذا يجعل مهمة من من الله عليه بالإشراف على التنظيم والمباشرة على استقبالهم وخدمتهم وضمان أنهم آمنون مطمئنون أمرا في غاية التعقيد.. إن لم يكن مستحيلا، (فكيف حققت المملكة هذه النجاحات غير المسبوقة يا ترى)؟!

الحقيقة أن إدارة الحشود عموما مهمة معقدة وتتطلب تطوير استراتيجيات فعالة مع الحفاظ على النظام والأمن والسلامة ولا مجال فيها لأي خطأ ولنا في تنظيم كأس العالم مثالا حيث تمت الاستعانة بخبرات أكثر من عشر دول أحيانا، فمن أهم التحديات صعوبة التنبؤ بتصرفات الجموع التي قد تخرج عن السياق فجأة وبسرعة مما يؤدي للتدافع والعنف فتشكل خطرا حقيقيا لأفرادها ومحيطها كله بما يمس سلامة الأرواح وهذا لا تقبل المملكة التهاون فيه نهائيا أساسا، فماذا إذا تتطلب الحال قيام الجموع بأداء (طقوس مقدسة وتقاليد معقدة) في وقت واحد ومكان واحد وزمن محدد؟ ذاك سيستلزم اليقظة والجاهزية القصوى لأن الموقف قد يضع المسؤولين في مواجهة احتمالات عدة والمطلوب فيها النجاح فقط وأكثر.. فكيف؟

معادلة النجاح تتطلب التخطيط المسبق بوضع خطة استثنائية استراتيجية متكاملة لرفع الجاهزية لكافة الاحتمالات إلى الحد الأمثل، بالإضافة إلى قاعدة بيانات إحصائية دقيقة عن حجم الحشود المتوقعة وطبيعة المنطقة والمخاطر المحتملة مع تحليل دائم ومستمر وتزداد الصعوبة مع الظروف الجوية غير الطبيعية كارتفاع درجات الحرارة أواشتداد هطول المطر.. والأولوية القصوى تعطى لدرجة الفاعلية والاستجابة الفورية في حالات الطوارئ كالحرائق أو الطوارئ الطبية أوالتصرفات الطائشة والأهم تخفيف حدة الموقف عند حدوث (اللامتوقع) فالأمور لا تسير وفقا للخطة المقررة دائما.

هنا يبرز دور التراكم المعرفي الذي اكتنزته خبرات السنين لكتلة هائلة من التحديات الحرجة المفاجئة وهو ما يجعل الأجهزة ذات العلاقة بأعمال الحج لا يغمض لها جفن، مستهدفة الحفاظ على الحشود آمنة مطمئنة ومنظمة حتى عودتها إلى موطنها، والنتيجة الطبيعية أن المملكة نجحت في جعل فترة الحج متسمة بكفاءة استثنائية وانسيابية مثالية وانضباطية عالية تجاوزت كل المعدلات العالمية والمعايير المتخصصة لإدارة الحشود حد (العبقرية)!

فمما يثير الإعجاب حقا درجة المثالية المتحققة في مختلف المشاعر المقدسة ولنأخذ (مشعر منى) مثالا؛ فعلى الرغم من الرقعة الجغرافية الضيقة ولكنها تظهر للكوكب كله كيف تتدفق كل هذه الأعداد المهولة من حجاج بيت الله الحرام دون اكتظاظ أو حوادث وبامتثالية عالية، فكيف جعلت المملكة منطقة منى متناهية الصغر تستوعب كل هذه الملايين وأداء الشعائر بهذه السلاسة؟!

بواقعية محضة هذا لم يحدث بالحظ ولا بالصدفة إنما بتراكم الخبرات الطويلة وبما اكتسبته من ممارسات وتجارب ثمينة صقلتها على امتداد قرن من الزمان؛ فالمملكة صاغت الخطط الدقيقة وضمنت استراتيجيتها كل الاحتمالات المتوقعة وغير المتوقعة أولا، كما استحدثت محاور متطورة منها بناء مدن للخيام المطورة مع تقسيمها وتوزيعها لفئات متجانسة بحيث تكون كل منطقة مخصصة لدولة معينة أو دول متجانسة الثقافة لتقليل الاختلافات ومنع حدوث تكدس مكاني بين الحجاج، وبالتزامن جهزت منطقة المشاعر المقدسة بأكملها بأعلى أنواع الأجهزة التكنولوجية الأمنية مع تطبيق التدابير الأمنية في كل متر

مربع حفاظا على سلامة أرواح الحجاج ومنعا لأي تجاوزات وكلها متصلة بغرفة عمليات مزودة بأحدث التقنيات العالمية.

الإنجازات الكبرى ذات أعمدة كبرى، فلا بد من الإشادة بالدور الحيوي الذي تضطلع به وتتشرف الهيئة الملكية العليا لتطوير مكة المكرمة برئاسة الأمير محمد بن سلمان لتعزيز خدمة ضيوف الرحمن من خلال بنية تحتية حديثة ومطورة لاستيعاب الأعداد المتزايدة كبناء المطارات والفنادق وأنظمة النقل الجديدة مع إرساء تحديثات معيارية ضامنة للأمن والسلامة كاستخدام برنامج التعرف على الوجه والأساور الذكية وتوظيف الطائرات بدون طيار واختيار أفضل الكوادر المدربة على كيفية التفاعل مع مختلف الثقافات والتعامل باحترافية عالية في حالات الطوارئ من قبل كوادر رفيعة الخبرة.. فأنى كان كل ذاك؟

منذ الأزل تتشرف المملكة بالالتزام بواجباتها الإسلامية وخدمة ضيوف الرحمن فقد رصدت ولا تزال تخصص ميزانيات مليارية لتعزيز قاعدة الهياكل الأساسية للخدمات الكافلة لسلامة وأمن الحجاج وتمتعهم بأداء فريضتهم الدينية وسط توسعات متتابعة ومتلاحقة تجاوزت تكاليفها مليارات الريالات ووفق خطة استراتيجية لا تنتهي صفحاتها للمشاعر المقدسة والحرمين الشريفين، إن حرص المملكة جلي للقاصي والداني فهي لا تدخر وسعا ولا مالا وتبذل الغالي والنفيس في كل المسارات والتي لا تتوقف مطلقا فما يلبث أن يغادر آخر حاج حتى تستنفر كل الأجهزة ذات العلاقة متناولة ملفات حج العام القادم فورا بهدف ضمان أداء الركن الخامس من أركان الإسلام بالشكل المثالي.

ختاما واستيثاقا وتوكيدا هذه معجزة العصر وبكل المقاييس، إن ما يحدث في أداء ضيوف الرحمن لفريضة الحج المقدسة أمر يفوق استيعاب العقل والمنطق فكيف يمكن لنحو (2.6) مليون حاج الإقامة في مشعر مساحته لا تتعدى (2.5) مليون متر مربع بواقع (1.6) متر مربع لكل حاج ناهينا عن كونه يحتوي على أكبر مجمع للأجهزة والجهات العاملة للمشاعر المقدسة ألا وهو (مشعر منى)! بحسابات الورقة والمسطرة يتحدث القلم (هذا مستحيل) إلا أن أبناء قائد هذه البلاد والذي تشرف بلقب (خادم الحرمين الشريفين) الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان حفظهم الله يضعون أمام ناظريهم البيت العتيق حين يؤذن للحج ليغدو برحمة الله كرحم الأم وقلبها فيحتضن بقداسته العالم الإسلامي قاطبة، وبمداد شعيرة الحج العظيمة تسطر لعلم إدارة الحشود ملحمة العباقرة!

إضاءة:

لما نادى البيت الحرام أهله

هرعت الأفئدة بالحب أن قد أنخناه

ولم يزل وفد الله يقصد بكـة

ورحمة رب العرش تظلله وتغشاه

بالحج محرما كجنة الخلد نعيمه

ما بقي قادر إلا أجاب ربه ولباه

@RimaRabah