منصة العواطف
الاثنين - 12 يونيو 2023
Mon - 12 Jun 2023
في عام 1944م نشر كتاب "جدل التنوير" لأول مرة للمؤلفين ماكس هوركهايمر، وتيودور أدورنو رواد الفلسفة النقدية وقد تألف الكتاب من عدة أقسام إلا أن أحد الأقسام قد برز في القرن العشرين تحت عنوان "صناعة الثقافة: التنوير وخداعة الجماهير" في هذا القسم اهتم كل من هوركهايمر وأدورنو بدراسة صناعة الثقافة من مجلات، موسيقى، برامج تلفيزونية، والبرامج الإذاعية وغيرها... حيث رأوا فيها أن المجتمع يمتاز لها بالتبعية وأن الوعي الجمعي يتعرض للاستيلاب أي السيطرة عليه وتشتيته من خلالها إلا أن إسهامات مدرسة فرانكفورت امتازت بالسلبية والنظرة السوداوية القاتمة وهو ليس بالغريب من مؤسسي مدرسة تأثرت أشد التأثر بالماركسية وإرجاع ذلك إلى أسباب اقتصادية بحتة ولكن لا يمكن إنكار الدور الذي قامت به في تلك الفترة وتوجيه نظر المتخصصين لدراسة جوانب أخرى لم يلق لها بال بالقدر الكافي، إلا أنه في ظل التقدم التقني أخذ مفهوم استيلاب الوعي بالتشكل والتغير فمع ازدياد وعي المشاهد عن وعيه في القرن العشرين ازدادت حيل التسويق.
كما أننا اليوم نعيش نوعا من التشتت يختلف عما مضى وهو ما يؤكده علماء النفس وأكثر ما يصيب المتفرج اللا واع، حيث يقتات على جيب المستهلك فيتحول إلى مستهلك جائر حين يتمكن منه وإن لم يجد ما يقتات عليه اقتات على صحته النفسية، كما أن برامج التلفاز كانت ولا زالت تخضع لسلطة هيئة رقابية ومن الصعب جدا أن يتم نشر برنامج أو حتى مقطع دعائي خاصة في أوطاننا العربية دون أن تمر بمراحل من التمحيص والفحص، وعلى الصعيد الآخر وسائل التواصل الاجتماعي لا يحتاج فيها المستخدم إلى أي هيئات رقابية ولا حتى لمرحلة واحدة من مراحل الفحص التي تمر بها البرامج التلفزونية فيستطيع المستخدم نشر ما يريد بناء على رغبته وفي صفحته الشخصية.
مما لا شك فيه أننا نعيش في قرية كونية كما سماها ماكلوهن – الإنترنت عامة وسائل التواصل الاجتماعي خاصة – وفي قريتنا نتعرض لهجمات عاطفية يومية بقصد تشتيت الوعي واستمالته إذ تحتوي هذه القرية على منصة كبرى يعلو المنصة مؤثرون ومن أمامهم مدرج ضخم يتسع لمئات الآلاف بل حتى للملايين من المتفرجين على مسرحية مؤدوها مؤثرو القرية وأعلاهم مشاهدة والتي تتكون من فصل واحد يسمى "الترند/Trend" وتترجم في اللغة العربية إلى شائع أي ذائع أو منتشر وهذا التعريف لا يكفي لوصف المعنى المقصود في وسائل التواصل الاجتماعي إلا أنه في الآونة الأخيرة تمت ملاحظة تردد مصطلح عربي آخر في الشارع السعودي عامة ومجتمع الرياض خاصة كمرادف للترند في اللغة الإنجليزية وهو "هَبَّه" وقد حاولت البحث عن معنى لها في المعاجم العربية فلم أجد لها معنى واضح يعبر عنها ويصفها كما تستخدم في الوقت الحالي إلا أن أقرب معنى لها في المعجم الوسيط وهو الهبوب حيث تعني: "الريح المثيرة للغبار"، وما أراه أن مصطلح هَبَّه في وقتنا الحالي يشير إلى أمر ما شائع بين عدد من الناس قد يكونون عشرات الآلاف أو أعلى كما يرتقي أحيانا في انتشاره للملايين المشاهدات على منصات التواصل الاجتماعي وهو قد يكون أي شيء بالمعنى الحرفي سواء مقطع فديو/صوتي، لباس (موضة)، تحدي، رقصة، مطعم، مقهى، مكان معين للزيارة دولة سياحية، حديقة حي...إلخ، يصعب تحديد مواصفات معينة للانتشار كما تختلف الأسباب وقد تكون الهَبَّه موافقة للمجتمع وثقافته أو اصطدامية مخالفة إلا أن أهم ما يميز الترند/الهبَّه سمتين رئيستين الأولى الانتشار الواسع والذي قد يكون محلي أو يتجاوز الحدود الجغرافية عالمي والثاني هو ارتباط الترند بوقت زمني معين غير محدد قد يكون أسابيع أو شهورا إلا أنه هش سريع الانطفاء إن ظهر ما يوازيه أو يفوقه في الزخم والانتشار.
تعتمد مسرحية قريتنا في عرضها على فصل واحد فقط وهو فصل الهبَّه مبهم المعالم مقارب لمسرحية "حبل غسيل" وهي مسرحية تم عرضها في عدة مناطق سعودية حيث لم تكن مبنية على سيناريو وإنما ارتجالية تعتمد على مشاركة الجماهير بتنظيم معين يشارك فيها الجمهور بطرح فكرة، قضية، أو حلم، وبناء عليه يؤدي الممثلون المشهد ارتجاليا دون اتفاق مسبق؛ وهو تماما ما يحدث في منصة عرض الترند/الهبّه حيث يصعب توقع ما هو قادم وحدوده.
إن المتفرج اللا واعي والذي يقضي ساعات طويلة بلا كلل وملل أمام وسائل التواصل الاجتماعي ويكون من أوائل المتفرجين حضورا على مدرج المنصة هو أكثرهم عرضة للإصابة بأعراض المستهلك الجائر كما يطلق عليه عبدالرحمن الشقير فبادئ ذي بدء يضمحل لديه الحس الفني والنقدي حيث إن عنف المجتمع الترندي ودور المؤثرين في ذلك ساهم في الحد من خيارات المستهلك فلا يرى أفضل مما امتدحه مروجو الهبَّه ولا أسوأ مما ذموه حتى وإن لم يخضع للتجربة كما ورد في خلاص الجمال للفيلسوف بيونغ هان، ولم يتوقف المستهلك الجائر عند هذا الحد بل إن الهبّه تخلق في ذهن المتفرج اللا واع انطباعا على أن العالم الخارجي وطرق تفكير الآخرين ليست إلا امتدادا لما هو ظاهر على المنصة وعليها تفننت وأبدعت في توجيه عاطفته وتشكيل مواقفه فلا يصعد اقتصاد مؤسسة إلا بانهيار أخرى وخروجها من السوق ورأينا في الآونة الأخيرة خروج عدة وكلاء للعلامات التجارية من سوق الاقتصاد السعودي فلم يعد أصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة وحدهم المهددون بل حتى أصحاب التجارات والمؤسسات الكبرى، وهي كذلك من المجالات التي هي بحاجة للدراسة فما هو دور استمالة الوعي في خروج الوكلاء من السوق السعودي؟
أخيرا، إن المسألة لا تنتهي عند الجانب الاقتصادي أو الذائقة والحس فقط بل قد يمر المتفرج اللا واع في مراحل متقدمة بنوع من الغربة نتيجة الصورة المثالية للذات والتي تعرض باستمرار من مروجي الهبَّه، ما أريد الإشارة إليه هو ألا نكون متفرجين لا واعين ولا مقاطعين بعيدين كل البعد فمن الصعب بل شبه المستحيل أن نعيش في عزلة تامة عن قريتنا الكونية وكما يقول عبدالله بن شايق رحمه الله:
أما أنا كل يوم أرتاح لي في مكان
أتفرج مع الجمهور وأضحك عليك.
كما أننا اليوم نعيش نوعا من التشتت يختلف عما مضى وهو ما يؤكده علماء النفس وأكثر ما يصيب المتفرج اللا واع، حيث يقتات على جيب المستهلك فيتحول إلى مستهلك جائر حين يتمكن منه وإن لم يجد ما يقتات عليه اقتات على صحته النفسية، كما أن برامج التلفاز كانت ولا زالت تخضع لسلطة هيئة رقابية ومن الصعب جدا أن يتم نشر برنامج أو حتى مقطع دعائي خاصة في أوطاننا العربية دون أن تمر بمراحل من التمحيص والفحص، وعلى الصعيد الآخر وسائل التواصل الاجتماعي لا يحتاج فيها المستخدم إلى أي هيئات رقابية ولا حتى لمرحلة واحدة من مراحل الفحص التي تمر بها البرامج التلفزونية فيستطيع المستخدم نشر ما يريد بناء على رغبته وفي صفحته الشخصية.
مما لا شك فيه أننا نعيش في قرية كونية كما سماها ماكلوهن – الإنترنت عامة وسائل التواصل الاجتماعي خاصة – وفي قريتنا نتعرض لهجمات عاطفية يومية بقصد تشتيت الوعي واستمالته إذ تحتوي هذه القرية على منصة كبرى يعلو المنصة مؤثرون ومن أمامهم مدرج ضخم يتسع لمئات الآلاف بل حتى للملايين من المتفرجين على مسرحية مؤدوها مؤثرو القرية وأعلاهم مشاهدة والتي تتكون من فصل واحد يسمى "الترند/Trend" وتترجم في اللغة العربية إلى شائع أي ذائع أو منتشر وهذا التعريف لا يكفي لوصف المعنى المقصود في وسائل التواصل الاجتماعي إلا أنه في الآونة الأخيرة تمت ملاحظة تردد مصطلح عربي آخر في الشارع السعودي عامة ومجتمع الرياض خاصة كمرادف للترند في اللغة الإنجليزية وهو "هَبَّه" وقد حاولت البحث عن معنى لها في المعاجم العربية فلم أجد لها معنى واضح يعبر عنها ويصفها كما تستخدم في الوقت الحالي إلا أن أقرب معنى لها في المعجم الوسيط وهو الهبوب حيث تعني: "الريح المثيرة للغبار"، وما أراه أن مصطلح هَبَّه في وقتنا الحالي يشير إلى أمر ما شائع بين عدد من الناس قد يكونون عشرات الآلاف أو أعلى كما يرتقي أحيانا في انتشاره للملايين المشاهدات على منصات التواصل الاجتماعي وهو قد يكون أي شيء بالمعنى الحرفي سواء مقطع فديو/صوتي، لباس (موضة)، تحدي، رقصة، مطعم، مقهى، مكان معين للزيارة دولة سياحية، حديقة حي...إلخ، يصعب تحديد مواصفات معينة للانتشار كما تختلف الأسباب وقد تكون الهَبَّه موافقة للمجتمع وثقافته أو اصطدامية مخالفة إلا أن أهم ما يميز الترند/الهبَّه سمتين رئيستين الأولى الانتشار الواسع والذي قد يكون محلي أو يتجاوز الحدود الجغرافية عالمي والثاني هو ارتباط الترند بوقت زمني معين غير محدد قد يكون أسابيع أو شهورا إلا أنه هش سريع الانطفاء إن ظهر ما يوازيه أو يفوقه في الزخم والانتشار.
تعتمد مسرحية قريتنا في عرضها على فصل واحد فقط وهو فصل الهبَّه مبهم المعالم مقارب لمسرحية "حبل غسيل" وهي مسرحية تم عرضها في عدة مناطق سعودية حيث لم تكن مبنية على سيناريو وإنما ارتجالية تعتمد على مشاركة الجماهير بتنظيم معين يشارك فيها الجمهور بطرح فكرة، قضية، أو حلم، وبناء عليه يؤدي الممثلون المشهد ارتجاليا دون اتفاق مسبق؛ وهو تماما ما يحدث في منصة عرض الترند/الهبّه حيث يصعب توقع ما هو قادم وحدوده.
إن المتفرج اللا واعي والذي يقضي ساعات طويلة بلا كلل وملل أمام وسائل التواصل الاجتماعي ويكون من أوائل المتفرجين حضورا على مدرج المنصة هو أكثرهم عرضة للإصابة بأعراض المستهلك الجائر كما يطلق عليه عبدالرحمن الشقير فبادئ ذي بدء يضمحل لديه الحس الفني والنقدي حيث إن عنف المجتمع الترندي ودور المؤثرين في ذلك ساهم في الحد من خيارات المستهلك فلا يرى أفضل مما امتدحه مروجو الهبَّه ولا أسوأ مما ذموه حتى وإن لم يخضع للتجربة كما ورد في خلاص الجمال للفيلسوف بيونغ هان، ولم يتوقف المستهلك الجائر عند هذا الحد بل إن الهبّه تخلق في ذهن المتفرج اللا واع انطباعا على أن العالم الخارجي وطرق تفكير الآخرين ليست إلا امتدادا لما هو ظاهر على المنصة وعليها تفننت وأبدعت في توجيه عاطفته وتشكيل مواقفه فلا يصعد اقتصاد مؤسسة إلا بانهيار أخرى وخروجها من السوق ورأينا في الآونة الأخيرة خروج عدة وكلاء للعلامات التجارية من سوق الاقتصاد السعودي فلم يعد أصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة وحدهم المهددون بل حتى أصحاب التجارات والمؤسسات الكبرى، وهي كذلك من المجالات التي هي بحاجة للدراسة فما هو دور استمالة الوعي في خروج الوكلاء من السوق السعودي؟
أخيرا، إن المسألة لا تنتهي عند الجانب الاقتصادي أو الذائقة والحس فقط بل قد يمر المتفرج اللا واع في مراحل متقدمة بنوع من الغربة نتيجة الصورة المثالية للذات والتي تعرض باستمرار من مروجي الهبَّه، ما أريد الإشارة إليه هو ألا نكون متفرجين لا واعين ولا مقاطعين بعيدين كل البعد فمن الصعب بل شبه المستحيل أن نعيش في عزلة تامة عن قريتنا الكونية وكما يقول عبدالله بن شايق رحمه الله:
أما أنا كل يوم أرتاح لي في مكان
أتفرج مع الجمهور وأضحك عليك.