ياسر حافظ

السعودية نحو الفضاء.. من التمكين إلى الإنجاز

الاثنين - 29 مايو 2023

Mon - 29 May 2023

جميل أن نعيش في زمن الإنجازات الريادية السعودية المتتالية، والتي نراها تتحقق كل يوم بفضل الله تعالى الذي أكرم هذه البلاد المباركة بقيادة حكيمة ذات رؤية عميقة ونظرة ثاقبة تقود سفينة الوطن من سمو إلى سمو ومن نجاح إلى نجاح في شتى المجالات، لتعكس الإرادة الاستشرافية والمتميزة لكل مخلص لتراب هذا الوطن، وكل شغوف بتحقيق أفضل الإنجازات المبنية على العلم وتمكين المواطن المتعلم والمتميز.

ونحن نشهد هذه الأيام إنجازا جديدا يحقق أحد طموحات القيادة الرشيدة ويجسد كلمة مولاي خادم الحرمين الشريفين والتي تضمنها خطابه الكريم في افتتاح أعمال السنة الثالثة من الدورة الثامنة لمجلس الشورى الموقر، وبحضور سمو سيدي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، حينما قال - يحفظه الله - «إن عالم الفضاء قد أولته المملكة قدرا من اهتمامها لتعزيز دورها في عالم الفضاء وصناعة تقنياته، وخلال هذا العام تم إطلاق برنامج المملكة لرواد الفضاء عبر رؤية المملكة 2030، الذي يهدف لتأهيل كوادر وطنية متمرسة للقيام برحلات فضائية طويلة وقصيرة المدى، كما سيتم إطلاق الاستراتيجية الوطنية للفضاء، والتي تشمل برامج الفضاء بالمملكة وأهدافها في خدمة الإنسانية».

نعم، لم تمض سوى بضعة أشهر على هذه الكلمة الضافية حتى أصبح الطموح والشغف السعودي إنجازا من الإنجازات العالمية في عالم الفضاء ليؤكد أن رؤية المملكة 2030 التي أسسها ويقود سفينتها سمو سيدي الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله - هي المحرك الأساس لكل الإنجازات الحديثة في هذه الدولة المباركة، قولا وفعلا، والتي بنيت على الطموح والشغف المقترن بالجهد والجد والسرعة في الإنجاز مع الدقة والإتقان في العمل، وبالطبع لا ينتج عن ذلك إلا نجاحا وتميزا، وإذا أراد الله -جل وعلا- بأمة خيرا سخر لها سبل النجاح وبارك لها في تلك السبل.

وهذا الاهتمام لم يكن وليد اليوم، وإنما هو غرس أبوي من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان - يحفظه الله - والذي تجسد في قيام نجله صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بأول رحلة لرائد فضاء عربي مسلم قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمن.

ويضاف إلى اهتمام قيادتنا الرشيدة أن مكنت مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بوضع الأسس العلمية لبرنامج الفضاء السعودي والذي بدأ يتجه الآن نحو مستقبل أكبر طموحا من مجرد برنامج للأقمار الصناعية إلى برنامج متكامل للاكتشاف وتوظيف النتائج العلمية في خدمة النهضة العلمية والتنموية في المملكة، وهذا ما دفعني بعد أن شرفني مولاي خادم الحرمين الشريفين وسمو سيدي ولي العهد -يحفظهما الله- باختياري عضوا في مجلس الشورى الموقر وكمواطن فخور بأن أكون من جيل الرؤية أن أطرح توصية على تقرير مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية لدراسة تأسيس محطة وقاعدة سعودية لإطلاق المركبات الفضائية في المملكة استثمارا لموقعها الجغرافي المميز مقارنة بمحطات إطلاق المركبات الفضائية العالمية.

التجارب العلمية

يعيش رائدا الفضاء السعوديان ريانة برناوي وعلي القرني يومهم الثامن في الفضاء، وهي المرحلة الثانية من مراحل رحلتهم والتي يمكن تقسيمها - في رأيي - إلى ثلاث مراحل رئيسة، مرحلة التهيئة والصعود ثم العودة، وثانيا مرحلة الوصول إلى طبقة الثرموسفير والتحام الكبسولة كرودراغون بمحط الفضاء الدولية وبدء التجارب، وثالثا مرحلة تحليل المعلومات وتحقيق النتائج وهذه المرحلة ستستمر حتى بعد عودة رائدي الفضاء مكللين بالنجاح بإذن الله تعالى.

إن من أهم ما تتميز به المرحلة الأولى هو انطلاق رائدي فضاء سعوديين -بينهما أول امرأة سعودية- عبر طبقات الغلاف الجوي التروبوسفير (الطبقة الأرضية المناخية) ثم الستراتوسفير (الطبقة الهادئة) ثم الميسوسفير (الطبقة المتوسطة) قبل وصولهما إلى الطبقة الحرارية المسماة بالثرموسفير، وهي الطبقة التي توجد فيها محطة الفضاء الدولية على ارتفاع 408 كيلومتر فوق سطح الأرض، حيث تضعف قوة الجاذبية الأرضية بدرجة كبيرة جدا وتسمى بالجاذبية الصغرى، وبالتالي تشكل بيئة مناسبة للقيام بالعديد من التجارب الحيوية والعلمية والتي تتطلب دراستها أن تكون تحت تأثير جاذبية شبه معدومة.

كما أن التصميم التقني المتطور للصاروخ فالكون 9 والكبسولة الحاملة لرواد الفضاء يضيف إلى هذه الرحلة تميزا تقنيا يواكب أحدث ما تم التوصل إليه في مجال صناعة الفضاء حتى الآن، حيث يعتبر فالكون 9 أول صاروخ فضائي يمكن استعادته بعد قيامه بمهمته بعكس الصواريخ الأخرى التي لا يمكن استخدامها إلا لمرة واحدة، أما محطة الفضاء الدولية والتي يجري فيها رواد الفضاء أحاثهم فهي مركبة فضائية مصممة خصيصا لهذا الغرض، فهي مجهزة بأماكن خاصة لإجراء التجارب وغرف ومرافق خدمية لإقامة وراحة رواد الفضاء، وتساوي في حجمها منزلا مساحته 7900 متر مربع تقريبا وارتفاعه 20 مترا يسير في طبقة الثرموسفير الفضائية بسرعة متوسطة قدرها 27600 كم في الساعة تقريبا.

وفي هذه المحطة سيقوم رائدا الفضاء السعوديان ريانة وعلي بإجراء 14 تجربة علمية مؤكدة (قد تصل إلى 20 تجربة دقيقة لاحقا)، حيث ستكون 10 تجارب منها في المجالات الطبية، و3 منها في مجالات الإرشاد والتعليم وتجربة واحدة في مجال الاستمطار تحت تأثير الجاذبية الصغرى.

هذه الحقائق العلمية الثابتة تؤكد التطور العلمي الهائل الذي وصلت إليه المملكة بفضل الله تعالى، ومن المؤسف جدا أن نجد في شبكات التواصل الاجتماعي من يشكك في برامج الفضاء وأهميتها، أو أن يقدم تصورات غير علمية وغير منطقية لتبرير مواقفه، ولذا فالمفترض عدم الالتفات لهذه الأصوات وإهمالها تماما، فالقافلة تسير، وإماتة الباطل تكون بالسكوت عنه، وفي نفس الوقت أرى أهمية تكثيف التوعية العلمية ونشرها في المجتمع حتى لا يكون هناك مجال لمثل هذه الأصوات النشاز المحبطة لكل إنجاز.

الصعود إلى الفضاء والجانب التشريعي

حرصت قيادتنا الرشيدة على أن تخدم التشريعات والتنظيمات تحقيق مستهدفات برامجنا الوطنية في ميادين الفلك والفضاء وتطوير القطاع وتنظيمه وتوفير جميع السبل والإمكانات للوصول إلى أفضل الإنجازات الرائدة بما يحقق رؤية المملكة في هذا المجال، وبما يضمن رعاية مصالح المملكة وحماية مكتسباتها، فقد تضمن ميثاق الهيئة السعودية للفضاء التي أنشئت بموجب قرار مجلس الوزراء الموقر رقم (209) وتاريخ 1440/4/25هـ في مادته الثالثة على أن هدف الهيئة هو تنظيم كل ما له صلة بقطاع الفضاء وتطويره، وبما يضمن رعاية مصالح المملكة ومكتسباتها، ويعزز الأمن والحماية من أي مخاطر متعلقة بالقطاع، وتشجيع الأنشطة البحثية والصناعية المتصلة بالفضاء وتحفيزها، وتنمية الكوادر الوطنية المتخصصة في مجال الفضاء، وللهيئة - دون إخلال باختصاصات ومسؤوليات الجهات الأخرى - تنظيم ما يتصل ببعثات علوم الفضاء والاستكشاف، وتنمية الكوادر الوطنية في مجال علوم الفضاء ودعمها، والتعاون مع الجهات الحكومية والهيئات المماثلة في الدول الأخرى، والمنظمات الدولية فيما يتعلق باختصاصاتها، وفقا للإجراءات النظامية.

من هنا تأتي أهمية مشاركة القطاعات المختلفة في المملكة بما يحقق أهداف الهيئة وبرامجها، وخاصة في الميادين العلمية المتوقعة من مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية وهي جهة رائدة في مجال الفلك والفضاء وعلومهما، وهيئة الاتصالات والفضاء والتقنية والجامعات السعودية بمختلف تخصصاتها العلمية والجهات الأخرى ذات العلاقة.

وفي جانب آخر من جوانب التطور والازدهار، فقد حرصت المملكة في هذا العهد الزاهر بتمكين المرأة إيمانا بقدراتها وتعزيزا لمكانتها التي كفلها لها شرعنا الحنيف ونظام المملكة، وجاء تأكيد ذلك في كلمة مولاي خادم الحرمين الشريفين في افتتاح أعمال السنة الثانية لمجلس الشورى الموقر، حيث قال - يحفظه الله - «حظت المرأة السعودية باهتمام ورعاية لتؤدي دورها في التنمية والبناء والتطوير».

وها نحن نقطف إحدى ثمرات هذا التمكين كإنجاز غير مسبوق على مستوى العالمين العربي والإسلامي بصعود أول رائدة فضاء لتؤكد للعالم أجمع أننا تجاوزنا مرحلة التمكين إلى مرحلة الإنجاز.

ختاما أسأل الله تعالى أن يكلل جهود رائدي الفضاء بالنجاح ويوفقهما لما فيه الخير والنفع لوطننا العزيز.