عبدالحليم البراك

إفساد المصطلحات!

الثلاثاء - 23 مايو 2023

Tue - 23 May 2023

يعتبر أحد أكبر النجاحات للنظريات والمفاهيم والقيم والمصطلحات الجديدة هو نزولها للشارع وتداولها بين العامة، ذلك أن نزولها يعني قدرتها على التعايش المتعالي مع الفكر البسيط، وقدرتها بنفس الوقت التداخل مع المجتمع وتأثيرها فيه، وهذا هو أحد أهداف تلك النظريات والفلسفات؛ أن تحدث تغييرا نتيجة الدراسة التي قام بها الباحث أو المفكر أو الفيلسوف، فإن الثقافة يجب أن تتسم بالعضوية وأن تكون جزءا من المجتمع والحياة والناس، بل وتكون هي المجتمع نفسه؛ متلبسة بحال الأفراد والمجموعات، فتسعد عندما يتداول الناس ذلك المصطلح الموسوم بقيمة معينة، ولو استعرضنا على سبيل المثال بعضها لعرفنا كيف أثرت في الناس، فالوجودية على سبيل المثال ركزت على القيمة الحقيقة للإنسان في وقت كان التركيز إما على الطبيعة أو العلم أو الوجود أو على المجتمع ككل، فتحرر الإنسان من تأثيرات تلك مجتمعة ليرى أن هويته أولا وحتى قبل الكينونة، فصارت القيم الإنسانية عالية للغاية بغاية كرامة الإنسان نفسه!

لكن الذي حدث – ويحدث حتى الآن – أن تلك المصطلحات تفسد – أحيانا – بتداول العامة لها؛ لأنها قد تقع في موقعها الطبيعي أحيانا لكن يتم تسطيحه بشكل ساذج وبسيط، أو لا تقع في موقعها الحقيقي فيندفع الأفراد وراءها متلبسين تلك النظرية والقيمة مضيفين لها قيما فاسدة أو غير صحيحة تحت غطاء الفلسفة الكبرى، وحتى يتضح المقال، ستجد أن البراجماتية جاءت بشكل مفيد للإنسانية إذ إنها تعني بالدرجة الأولى بقصر النظر بما يعود للناس بالنفع، وأن البحث فيما لا يرى الإنسان نفعه عليه إنما هو مضيعة للوقت في أحسن الحالات، إذ إنها ترى أن الحقيقة هي ما يفيد الناس، هذا النظرة التي جعلت من الإنتاج والحياة أكثر فاعلية وكفاءة وصار الإنسان يركز على منافع الإنسان، تم توظيفها بشكل شعبوي سيئ للغاية، أدى إلى الأنانية وهو ما لا تعتني فيه النظرية البرجماتية إطلاقا ولا يعد أحد مفرداته لكنه - بالتأكيد - أحد الأعراض السلبية لعمومية هذه النظرية، فالبرجماتية بريئة في مقاصدها الكبرى من الثغرة الموجودة فيها وتم استغلالها ضدها.

وما يقال عن البرجماتية يقال عن الاشتراكية أيضا، فثمة جوانب في الاشتراكية تعتني في المجتمع ككتلة تامة، وتعتني بطبقة الأكثر فقرا كهدف أساس للنظرية، ولولا أن تطبيقاتها أساءت إليها، لما صارت بهذا الصورة الآن، فجاءت بعدها الاشتراكية الديموقراطية ونقد الماركسية من الداخل لمحاولة تحسين صورة الاشتراكية مما أصابها أو تم بناؤها في داخلها من سوء.

نظام التفاهة، كتاب يبحث كيف أن هذا العصر كرس جهوده على المكاسب المادية والفردانية وسطح فكر الصفوة وانتقلت العدوى للمجتمع فصارت التفاهة من حالة عارضة إلى حالة مستدامة في المجتمعات العلمية قبل المجتمعات العامة، لكن تم تداول هذا المصطلح بشكل سيئ للغاية أفرغ المحتوى الأساسي من هدفه الأصلي ولعلي أقول في أحسن الأحوال (سطح أفكار الكتاب والمصطلح) بشكل كبير جدا حتى باتت كلمة التفاهة يرددها التافهون أنفسهم!

وحتى كتاب الأمير، لميكافيلي، برغم قسوة الكتاب وعباراته ورؤية لأساسيات السياسة، إلا أن هناك من يفسر بشكل معقول بعض ما فيه بهدف تحقيق السلم للمجتمع والناس والأفراد، - ربما هذا ليس مبررا كافيا - ويضرب مثلا في الحرب، في أن الحرب تنقسم إلى فريقين ظالم ومظلوم، وإن المظلوم والمعتدى عليه؛ يحتاج بعض القسوة ليوقف الظلم الواقع عليه ولو وقعت بعض الخسائر التي لا تبرر في مفرداتها لكنها مبررة في مجمل الهدف منها للصالح العام، أقول هذا وأن الميكافيلية صارت وصمة عار بعد أن تم تداولها في إطارها؛ وفي خارج إطارها حتى صارت رمزية للعنف والظلم وأحد مغذيات الفكر النازي والأنظمة السيئة، فهل هي كذلك حقا؟! (أترك الإجابة للقارئ).

مدركا تماما حساسية الأمثلة، وأن الأمثلة هي الشرك الذي يقع فيها الاختلاف عادة، ومهما يكن من أمر، فإن الأمثلة قابلة للتصحيح والمناقشة لكن الواضح جدا أن على المثقف والمتعلم أن يحرر المصطلحات من جراء التسطيحات التي تتعرض لها عند تداولها بشكل واسع؛ حتى لا تفقد قيمتها التاريخية والقيمية كتراكم تاريخي فلسفي يحتاج الإنسان في تفسير الحياة بطريقة تكاملية مع نظريات أخرى!

Halemalbaarrak@