عبدالحليم البراك

انتصارات لا تنتهي.. النقد فارسا

الاثنين - 15 مايو 2023

Mon - 15 May 2023

هل يمكن لأحدنا أن يؤرخ تاريخ النقد، بمعنى أن نذكر أول مرة مارس فيها الإنسان النقد كأداة من أدواته المعرفية لتطوير نفسه وأدواته والحياة من حوله، أو على الأقل كوسيلة يواجه العالم؟!

أحسب أن أي مقاربة لمحاولة فهم متى بدأ النقد تبدو ميتة إلى حد ما، ذلك أن الإنسان بطبعه ناقد، والنقد يعني التصحيح، وما دام الإنسان يحقق الانتصارات على أي اتجاه كان، فكري أو أدبي أو عملي أو فلسفي، فإن هذه الانتصارات لا تتم إلا تحت آلة النقد وحده أو على الأقل يكون النقد عنصرا أساسيا فيها.

لا يمكننا السؤال أيهما بدأ أولا، النقد أم الفكرة، ذلك أن الفكرة أصلا هي الأخرى نشأت من نقد لشيء ما، والأمر يشبه حلقة الجدليات التي لا تنتهي فمدام هناك إنسان هناك نقد، وما دام هناك تطور هناك نقد، بل قد يقال إنه مادام هناك تغيير يعني هذا أن هناك نقد مر من هنا، فمرحلة التغيير لا تأتي إلا بعد مرحلة النقد وهي إعادة التفكير في الموجود أو الموروث وإعادة صياغته من خلال نسفه بالكامل أو إجراء تحسينات عليه.

وحسب اختصاصك تماما؛ ستجد أن كل عمل سابق كان له صورة قديمة قبل أن يحل محله العمل الجديد الذي ظهر بالنقد ثم العمل، فالإدارة الجديدة جاءت بعد نقد الإدارة القديمة وأسلوبها والفلسفة الجديدة المتطورة جاءت بعد نقد الفلسفة القديمة وأي عمل جديد –حتى لو لم يكن في ظاهره نقدا– هو في داخله نقد وثورة، هذا النقد يمكن أن ينحصر في عدم الرضا عن الرتابة والتقليد والاستمرار على النمط القديم وهذا يكفي به نقدا، ويحدث النقد بالتأمل والتفكير والتفكيك والتجميع والحصر والتجربة والتفكير المنطقي وحتى بالأسلوب اللغوي، ذلك أن العالم بكل معارفه ليس صيغة واحدة وحتى الآن لم يثبت أن الإنسان توقف نموه؛ فيكاد يجمع العالم كله على أن كل عام يبدو أكثر تطورا من العام الذي قبله؛ ليس على مستوى العلم فقط، بل على مستوى التغييرات الفكرية والذهنية وقدرات الإنسان العلمية والعملية، فهل يمكن أن تتم كل هذه التغييرات بلا نقد (إعادة تفكير)؟

آلة النقد هي الآلة الأبرز لدى الإنسان لإحداث تغيير بهدف التحسين، هل هذا فقط؟ لا بل إن التدهور هو الآخر يستخدم نفس هذه الآلة للحصول على الأسوأ هو الآخر؛ لأن آلة التغيير أن لم تكن إيجابية فهي سلبية والنقد هو الأداة المستخدمة، حتى وصلت بعض المدارس إلى مستوى نقد النقد نفسه (مدرسة فرانكفورت على سبيل المثال).

على المستوى الفلسفي مثلا، بدأت الآلة النقدية في اليونان فما أصل العالم عند اليونانيين إلا عملية نقدية متبادلة بينهم فهذا يقول إن أصل العالم هو الماء وغيره يقول الهواء حتى ينتهي بالجمع بين كل المتغيرات وينسف ما انتهى إليه أولئك بعمل آخر بأنه ذرة أو طاقة أو رقم ولا يزال العالم ينقد أصله (وإن كان السؤال عن أصل العالم تحت الرماد) فإن ثمة أداة نقدية في أي لحظة لتقول لنا عن أصل العالم ثم تتوالى النظريات الواحدة تلو الأخرى وكل واحدة إما تنقد الأخرى أو أنها –بالنقد– تنقل الاهتمام من هذا الأصل في تفسير العالم والوجود والإنسان إلى نقطة اهتمام أخرى هي في الأصل نقدا على الاهتمام نفسه وكأن الاهتمام جدير به شيء آخر غير ما قام به هؤلاء!

تتحسن آلة النقد وتتدهور، لكنها هي الأداة الأصيلة في التغيير ويبقى الإنسان يحمل معه معول النقد ليهدم قبل أن يبني أو يحدث كسرا بالنقد ليرمم ويحسن من أدائه، ويعيد دراسة كل شيء بما في ذلك نقد النقد وأدوات النقد وأساليبه، وما المنطق الأرسطي – على سبيل المثال– إلا محاولة لتقويم العقل حتى يبدأ في النقد بطريقة صحيحة، حتى جاء من يصحح أخطاء المنطق الأرسطي بنقده، وما فتئت مدرسة فرانكفورت النقدية تنقد كل ما حولها معتبرة أن النقد أداة للتطوير من الداخل حتى نقدت النقد نفسه واعتبرته جزءا من تكوينها لتحصل على منهجية ناقدة علمية ومهنية نافذة.

Halemalbaarrak@