يوسف الحمادي

«مطلقو الصفارة» يهزون عرش أمريكا

السبت - 06 مايو 2023

Sat - 06 May 2023

يشغل الضمير حيزا كبيرا من المفهوم الواسع لـ«مطلقي الصفارة»، «whistle blowers»، الذين أفشوا أسرار عدد من المنظمات ووكالات المخابرات العالمية على مر العقود الماضية، بين فاقد للأخلاق يضحي بمهنيته وأسرار عمله، وآخر ذي ضمير حي يؤنبه ويدفعه لفضح أي معلومات تنتهك حقوق الإنسان وقوانين الدول.

ذلك يعني أن أي مسرب للوثائق الاستخباراتية يعرف تماما، في أي طريق يسير، فقد وصل إلى مرحلة من التصالح مع النفس، تجعله قادرا على التكيف مع أي نتائج، سواء السجن أو اللجوء، في المقابل هناك نوع آخر، يمثل المفهوم الاستخباراتي الدقيق لعبارة «مطلق الصفارة»، وهو من يسرب قدرا ضئيلا جدا من المعلومات السرية بقصد حمايتها، أو العمل على تعقب وتصحيح عدد لا يحصى من الانتهاكات وإساءة استخدام المعلومات.

لا شك أن تسريب وثائق «البنتاغون» السرية على يد الشاب جاك تيكسيرا، وهو بالمناسبة التسريب الخامس خلال 13 عاما في أمريكا، يمثل خطوة تعكس مدى خطورة الوضع، الذي يفرضه استمرار مسلسل التسريبات، على الرغم من قوة إجراءات أجهزة المخابرات الأمريكية، التي لم تفلح في التصدي لتلك الاختراقات، بالرغم مما لحق بها من تعزيزات، مثل برنامج «إنسايدر ثريت»، الذي أنشأه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وألزم الأجهزة الأمريكية، بتعزيز تدابير الحماية من عمليات الكشف غير المصرح بها.

فمسلسل التسريبات الحديثة، الذي بدأ مع تشيلسي مانينغ في العام 2010م، وأدانتها المحكمة في يوليو عام 2013، بانتهاك قانون التجسس وغيره من الجرائم، بعد أن كشفت نحو 750 ألف وثيقة، لم يتوقف عند تسريبات «إدوارد سنودن»، الشهيرة في العام 2013م، الذي سرب برنامج التجسس الأمريكي «بريسم»، بل استمر مع هارولد مارتن، الذي نقل إلى منزله ما يقارب 50 تيرابايت من البيانات والوثائق، ثم جوشوا شولت قرصان الكمبيوتر، الذي سرب نحو 8,761 وثيقة عام 2017م من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وقبل ذلك كله جوليان أسانج الصحفي والمبرمج الأسترالي، مؤسس موقع ويكيليكس ورئيس تحريره.

وبالرغم من جبروت القوة الأمريكية في مطاردة هؤلاء المسربين ومحاكمتهم جميعا، باستثناء إدوارد سنودن الذي استطاع الهرب واللجوء إلى روسيا كما هو مرجح، فإن ذلك لم يردع جاك تيكسيرا، الشاب الذي سرب قبل أسابيع قليلة معلومات خطيرة جدا، عبر 100 وثيقة، تتعلق بمعلومات حساسة عن الحرب الروسية الأوكرانية، وتنصت الولايات المتحدة على حلفاء رئيسيين.

ومن ذلك، فإن لكل مطلق صفارة، أسبابه في تسريب المعلومات، فعلى سبيل المثال إدوارد سنودن، الذي صبر طويلا على انتهاك أجهزة الاستخبارات الأمريكية للقانون والتجسس على المواطنين، أعلنها صراحة في مذكراته، بأن ضميره دفعه لكشف تلك التجاوزات، أما تشيلسي ما نينغ التي كانت تعاني أزمة نفسية، لم تكن بعيدة عن سنودن، فقد اعتذرت في جلسة استماع بالمحكمة، وقالت إنها اعتقدت بالخطأ، أن باستطاعتها التغيير إلى الأفضل.

في تصوري، إن الدوافع الإنسانية وعدم الرضا وعامل الكراهية ضد أجهزة الاستخبارات وأساليب عملها، جميعها من تسببت في انحراف مفهوم «مطلقي الصفارة» من موظفين مخلصين إلى أعداء ناقمين، ما يعكس أيضا أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية تعيش أزمتين؛ الأولى مهنية، والأخرى أخلاقية.

ومن هنا يمكن استنتاج أن الأزمة الأولى تسببت بفشل حماية المعلومات السرية، بالإضافة إلى خسائر مالية تصل إلى مئات الملايين من الدولارات، فضلا عن توتر علاقات أمريكا مع حلفائها، وانكشافها أمام خصومها، أما الأزمة الثانية وهي الأخلاقية، ويحتمل أنها تحتم على تلك الأجهزة إعادة النظر في علاقتها مع موظفيها، ومع مختلف الملفات التي تعالجها، وطريقة التعاطي معها.

لا يختلف اثنان على أن الولايات المتحدة دولة كبرى، لكنها «هشة» في ملفات عدة، ويكفي امتلاكها سجلا حافلا في الاختراقات الاستخباراتية والبناء المتذبذب وغير الثابت لأجهزة الدولة، بما في ذلك الحساسة.

binmautaib@