ريما رباح

المساحات.. تحت المجهر!

الأحد - 30 أبريل 2023

Sun - 30 Apr 2023

عندما تخبو قوة وسائل الإعلام ويتبدد تأثيرها على وجهات نظر المشاهدين ومواقفهم لنشرها حوارا متحيزا أو معلومات منحازة فهي تفقد الكثير من أهم أصولها (المصداقية)، والنبأ الأسوأ هنا هو إذا ما تركت دون أن تواجه أي عواقب؛ فتبعات فشل السياسة الإعلامية التي غذت بيئات إعلامية منحازة لا تنحصر في كونها شديدة الانحراف عن الحقيقة وهو ليس بالأمر اليسير ولا بالهين؛ لأنه يكلف المجتمع الكثير بتقديم مفاهيم (غير دقيقة وغير عادلة) بل تتجاوز ذلك أيضا وبمراحل؛ فالانزياح عن الواقع يؤسس لمفاهيم التعصب والكراهية بين فئات المجتمع. فكيف يحصل كل هذا؟!

‏الحوار هو حجر الأساس في التواصل الإنساني وقاعدته موضوعية الطرح والبناء المنطقي وقانونه الأول أن يكون متوازنا بين كل الفرقاء سواء كانوا منتقدين أو معارضين للقضية المطروحة أو ذوي رؤية مختلفة مع تجنب المغالطات المنطقية وتبني اللغة العلمية والأرقام قدر الإمكان، وعلى التوازي تجنب منطق (المعادلة الصفرية) والتي يترجم فيها تفوق رأي شخص ما بأنه خسارة لآخر.

أما جودة الحوار فهي تتناسب مع خبرة ومصداقية المحاور والضيوف؛ فالمحاور يجب أن يكون مثقفا بلغ من الحكمة ما ينبئه أن لديه ككل الناس (نقاطا عمياء) وهذا يلزمه الإعداد الجيد والحيادية المطلقة مما يفرض عليه التصرف على أنه مجرد حكم أو مضيف منظم وأن يكون منفتحا على كل الآراء والأطياف إلى جانب إبقاء البيئة مرنة وإيجابية لضمان تدفق كل أفكار ومعارف ومفاهيم وخبرات المختصين والحضور في سبيل تشكيل مفهوم واقعي يعكس الحقيقة في نهاية الجلسة، مع تجنب التدخل كطرف في الحوار أو طرح معلومة مغلوطة أو عرض فكرة بشكل غير واضح؛ لأن التشكيك حينئذ أو بعد انتهاء الحوار سينعكس سلبا ومباشرة على مصداقية الجهة المستضيفة ككل، وفي المقابل يتوجب أن يكون اختيار الضيوف من ذوي الخبرة والتخصص فالإثراء المعلوماتي يزداد كلما كانت طروحات الضيوف دقيقة وواقعية، ومن نافل القول أن استضافة أشخاص بأسماء مستعارة إذا ما حدث فإنه سيشكك في شفافية الحوار ويضعف حيادية موثوقية البرنامج أو القناة التلفزيونية المستضيفة ككل.. ويبرز هنا تساؤل مشروع: هل هذا مجاز نظاما؟!

هنا نأتي إلى أول أدبيات الحوار، الحيادية المتطرفة مبدأ أساسي وتتمحور حول التعامل مع جميع المشاركين على قدم المساواة، ونقيضها المحاباة والمحسوبية لطرف في الحوار على حساب أطراف الرأي الآخر والتي إن سادت كفشل مدير الحوار في أن يحجب آراءه الشخصية وأحكامه المسبقة كأن يظهر تحيزا لشخص ما أو رأي معين؛ فإنها تقوض مبدأ الحوار الإيجابي تماما، حيث يصبح خارج أي إمكانية لوصفه بأنه كان (محايدا وموضوعيا).. فكيف ذلك؟

إذا خلت المساحات الحوارية من مقوماتها الأساسية بدأ إهدار أهم الأصول في عصر الرقمية؛ فالمشرف المتحيز هو كما (المسؤول الفاسد) الذي يسيئ استخدام سلطته ونفوذه بما يخدم مصالحه وأهواءه الشخصية؛ فالحوار بالنسبة له ما هو إلا وسيلة لاستخلاص الغاية بتحقيق رؤى تؤكد آراءه وأحكامه المسبقة.. فهل هذا أمر يتقبله الناس يا ترى؟! قطعا كلا.. فمن البديهي لو سئلت ماذا تفعل لو كنت في حوار متحيز؟ أن تكون إجابتك (أغادر إلى مساحة أخرى)!! إذن لو وجهنا السؤال إلى أحد ملاك القنوات التلفزيونية (كيف تجعل برامجك الحوارية فاشلة ؟!).. فالإجابة حاضرة والأمر بسيط ما عليك إلا أن تجعل التحيز يسود المشهد والمجتمع الواعي سيتجنب المشاهدة إن لم يقاطع قناتك التلفزيونية تماما وإلى الأبد.

‏وهذا يوصلنا إلى منعطف متأزم يمكن وصفه بـ (التعمية المزدوجة).. فحين يتوه المسار يبدأ تضليل الحقيقة والسير في اتجاه التضليل.. فيغدو الحوار (مضللا مضللا) وتغدو قابعة في الزاوية.. هي الحقيقة عليلة مريضة شاكية!!

‏بوصلة المقال.. هناك خط رفيع بين الحوار وخطاب الكراهية، وعصر الوسائط الرقمية نعمة ونقمة، فهو قد سمح بالحوار المكثف إنما أيضا أتاح للناس المشاركة لأي محتوى مسيء دون قيود، ولا تزال الشعبوية إحدى طرق التسويق الرخيص فهي تركز على جذب الانتباه دون اكتراث بالعواقب مما يتسبب في تنامي خطاب الكراهية الذي يعرف بأنه خطاب تحريضي سلبي يبث البغضاء والعنف والتمييز مستنهضا الصفات الدنيئة والفساد الأخلاقي في المجتمع.. وهنا تبرز خطورة المنصات الحوارية.

المساحات نافذة حوارية إعلامية يجب أن يتابع محتواها، وأن تكون تحت تنظيم إدارة كفء وتتحمل مسؤولية الإشراف الجهة التابعة لها سواء أكانت كيانات أو وسائل إعلامية حتى لا تستغل لإذكاء أجندات التعصب وبث الكراهية وتدليس الحقائق وتوجيه الرأي في الاتجاه الخاطئ.

‏وفي هذا المنعطف تحضر معضلة أخرى لا تقل عنها أهمية.. ألا وهي (التوقيت) خاصة في القضايا المشحونة عاطفيا، وعلى سبيل المثال القضايا الرياضية فالجماهير ترتبط بفريقها بعلاقة نفسية قوية وأي مقاربة سلبية وقت الأزمات يشعرها بالتهديد لهويتها الاجتماعية ويخلق الكراهية مما لا يفوت على أهل الإعلام.. وكما التدخل الجراحي في الحالات الخطرة طبيا قد يودي بحياة المريض فالتوقيت الخاطئ هو الخطأ بعينه.. نعم هو قد يكون قاتلا!!

‏ختم الكلام.. الإعلام والمثقفون من أهم وكلاء التغيير في الوعي الجمعي.. فأيما قرار لفتح مساحة حوارية يتوجب أن يكون قانونه الأساسي (افعل ما ينتج أفضل النتائج) ومبدؤه التقييمي الأول (الفائدة القصوى للمجتمع) حكما، والأمر الأكيد أن مصلحة المجتمع تتطلب تنظيم الكلام غير المتوازن في المساحات.. فهناك فروق شاسعة بين النقد البناء وحرية التعبير وبين النقد الهدام وتأسيس خطاب الكراهية؛ فالهدف هو دعم بيئة الحوار ورفع الوعي حتى يكون كل الحضور كاسبا والمجتمع بأسره رابحا ظافرا غانما..!

RimaRabah@