عبدالحليم البراك

قوة وضعف العقل

الاثنين - 10 أبريل 2023

Mon - 10 Apr 2023

دائما ما يستعين الكتّاب بهذه القصة: سيناريو يحدث في إحدى لعب الأطفال وتحدياتهم، إذ إنها قصة معبرة وفعالة في قياس فعالية العقل أو الخبر.

كما يعرض المهتمون في التاريخ مفهوما آخر يأتي في النقيض تماما لها، وكلتا القصتين في ظل تناقضهما يشكلان قوة العقل وضعفه في وقت واحد، ومقدار الثقة وعدم الثقة في الوعي في اللحظة نفسها، بل وتشكك وتزيد من ثقة الإنسان في الوقت نفسه.

وكلتا الحالتين - في حال اجتمعتا - تشكلان فيما يمكن أن نسميه الثقة غير الجازمة، أو الجزم غير المطلق!

أما القصة الأولى للأطفال، فهي لعبة «التلفون معطل» وفكرة القصة أن يكون هناك عشرة أطفال، يقوم أحدهم بإخبار أول طفل بالخبر، وحده ودون أن يعلم أحد، ويقوم بتمريرها بالدرجة نفسها من السرية للطفل الآخر، وحتى الأخير، ثم تتم مقارنتها بالجملة الأولى، ويعرفون مدى تعرض الخبر للتزييف من جهة، ويعرفون - أيضا - من الأكثر تزييفا من الأطفال (ربما لم يسمع جيدا أو لم يفهم جيدا) من بين الأطفال التسعة.

واللعبة شهيرة، محصلتها عدم الثقة في النقل والعقل معا، لأن حالة من التزييف تحدث بشكل طبيعي، إما بسبب تعثر السمع أو تعثر الفهم أو تعثر التعبير بطريقة جيدة عن الجملة المسموعة، وكلها مؤثرات حقيقية.

فما بالك في الحياة الطبيعية، إن كان ثمة إضافة مؤثرات أخرى مثل الحالات النفسية والرغبات الخاصة بالأشخاص والضغوط الخارجية، وغيرها مما يشكل ويؤثر في التلقي من جهة والتعبير عنه من جهة أخرى، وبهذه القصة يمكن ـ كما قلنا ـ التشكيك في مصداقية العقل دوما.

كما يدعم هذه القصة أيضا وعينا عن حدث معين يحدث اليوم، وأنت تستوعبه بشكل معين هذا اليوم، ويتم تذكره بعد يومين ويبدو بالاستيعاب السابق نفسه، مع قليل من التغيير نتيجة الهدوء، فلو - مثلا - كتبت عن وعيك في أول يوم وقارنته بوعيك بعد يومين (مكتوبا)، ثم قارنته بوعيك بعد شهر، ثم سنة (مكتوبا أيضا) ستجد أن الحادثة واحدة والمعبر واحد؛ ولكن اختلفت تماما رؤيتك للحدث بفعل الزمن أو بفعل تطوره العقلي، أو بفعل مستجدات أخرى مؤثرة على الحدث/ القصة.

يقابل هذا التحليل وفي النقيض تماما، صورة أخرى مختلفة ومناقضة وهي ما يستخدمه المؤرخون في التحليل التاريخي، وهو ما يلعبه عنصر الزمن كمؤثر فاعل في تشكيل الخيوط التاريخية، وبأن معاصرة الحدث تقلل من الوعي فيه من جهة، نظرا لعدم اكتمال الرؤية وخيوط الحدث ، وسهولة التضليل التاريخي، ومن جهة أخرى تأثر المؤرخ بفعل معايشته الوضع الحالي على الحدث، وتكتمل الرؤية بفعل مرور الزمن وتتضح أبعادها عندما تجتمع الخيوط التاريخية للحدث ، فيمكن تفسيره بطريقة أقوى وأكثر تمكنا لأسباب منها: تخلص الباحث النسبي من التأثر بالحدث، واكتمال الخيوط التاريخية، وتأثير تقادم الزمن على القصص والروايات، والاعترافات الناتجة من هذا التقادم. وثمة عوامل أخرى.

إلى ماذا يقودنا كل هذا؟، إلى أن العقل والوعي لا يمكن أن يكون هو صاحب ثقة مطلقة في التفسير، وأن كل ما هناك هو اقتراب من الحقيقة أو ابتعاد عنها لا أكثر، بل العلم لو منح نفسه اليقين على أي نظرية يقول بها، لمنع نفسه من نقدها، ثم من تصحيحها، ولكن لأن العلم بطبيعته متشكك في نفسه، ومراجع مستمر لحقائقه فإن النظريات إما أن تتغير أو تتطور أو تفشل تماما، بعد عصور من النجاح المزعوم، أو أنها تحقق مصداقية نسبية لم تكن متوافرة مع حقيقة مطلقة كانوا يعتقدونها فيها (مثال المنطق الصوري الأرسطي على ذلك، إذ إنه ساد في وقت مضى، لدرجة أن التشكيك فيه تشكيك في العقل البشري كاملا).

يقودنا هذا الملخص إلى عدم التعصب للرأي والتفسير، لأن ثمة ما يمكن أن يكون مؤثرا فيه بطريقة أكثر مما يتخيله عقلك الصغير، أو بسبب معلومة مضللة أو حقيقية مؤثرة أو غير مؤثرة يتم استخدامها.

والسؤال المشروع الآن: هل يقودنا هذا إلى مزيد من الهدوء والعقلانية في التصور والحكم على الأشياء؟ يمكنني الإجابة بـ: نعم وبكل صدق، لأن العقل رهين أدواته وليس عقلا خالصا متكررا، يحمل سمة نقية من المؤثرات المشكلة للإنسان نفسه!

Halemalbaarrak@