حامد بن سليمان العيسى

مبادئ وأحكام المحكمة الإدارية العليا بين الإلزامية والاستئناس

الخميس - 06 أبريل 2023

Thu - 06 Apr 2023

ناقشنا في مقال سابق بعنوان «مبادئ وأحكام المحكمة العليا بين الإلزامية والاستئناس» مدى إلزامية ما يصدر عن المحكمة العليا في القضاء العام، وخلصنا إلى أن ما يصدر عنها من حيث الأصل من أحكام ومبادئ غير ملزم من الناحية النظامية - بخلاف القضية محل النظر - إلا المبادئ الصادرة عنها في سبيل نظر الدعاوى التجارية وفقا لنظام المحاكم التجارية فهي ملزمة.

واستكمالا لمقالنا سالف الذكر، ولما كانت المنظومة القضائية في المملكة لا تنحصر في ولاية القضاء العام - فقط - والخاضعة جميع أحكامها لرقابة المحكمة العليا، وتوجد جهات تقاض أخرى، وهي: قضاء ديوان المظالم (القضاء الإداري)، واللجان القضائية ذات الأحكام النهائية (مثل: لجان الفصل في منازعات الأوراق المالية واللجان الزكوية، وغيرها) مما يعني أن جهات التقاضي -من الناحية الواقعية- ليست موحدة أو مزدوجة بل متعددة، ولرسم صورة واضحة عن المبادئ القضائية في منظومة محاكم المملكة؛ وجدنا لزاما علينا مناقشة ما يصدر عن المحكمة الإدارية العليا في ديوان المظالم - باعتباره جهة تقاضي منفصلة تماما عن القضاء العام، ومن اختصاصاته القضايا التي تكون الجهات الحكومية (ويصدق عليها وصف جهة الإدارة) طرفا فيها بوجه عام ووفقا لتفصيل يطول - وبيان ما إذا كان ما يصدر عنها ملزما لما دونها من المحاكم الخاضعة لولاية ديوان المظالم.

وللإجابة على هذا السؤال، يلزم علينا ابتداء بيان ما يصدر عن المحكمة الإدارية العليا، وهي كحال المحكمة العليا في القضاء العام يصدر عنها - بوجه عام - أحكام قضائية تنظرها إحدى دوائرها بحسب اختصاصاتها المقررة نظاما إما بوصفها محكمة نظام (قانون) - وهو الأصل - أو محكمة موضوع - تتصدى للنزاع - وما يصدر عنها بهذين الوصفين يسمى (الأحكام القضائية).

وكذلك يصدر عن المحكمة الإدارية العليا - بوجه خاص - مبادئ قضائية والتي عبرت عنها المحكمة الإدارية العليا بحكمها في

الاعتراض رقم (352) لعام 1439هـ: «إن المبدأ القضائي لا يصح التأسيس عليه إلا إذا تقرر بحكم من إحدى الدوائر الإدارية بالمحكمة الإدارية العليا»، وعلى كل حال فإن مبادئ المحكمة الإدارية العليا تؤسس على حالتين، هما:

الحالة الأولى: مبادئ قضائية تقرر من ذات دوائر المحكمة الإدارية العليا عند نظرها لنزاع معين -ابتداء- وفق ما دلت عليه المادة (10) من نظام ديوان المظالم.

الحالة الثانية: مبادئ قضائية تقرر من الهيئة العامة للمحكمة الإدارية العليا - وهي كحال المحكمة العليا في القضاء العام بعضوية جميع قضاة المحكمة وبرئاسة رئيسها -؛ وذلك في حالة العدول عن مبدأ سبق أن قرر من إحدى دوائر المحكمة الإدارية العليا -وفق الحالة سالفة الذكر- وبحسب التفصيل الوارد في المادة (10) من نظام ديوان المظالم.

ومن أمثلة الحالة الأولى: المبدأ الصادر في الاعتراض رقم (1458) لعام 1443هـ، على حكم الاستئناف الصادر في القضية رقم (2346) لعام 1442هـ والذي جاء فيه «تسجيل بلاغ التغيب عن العمل ليس انعكاسا للالتزام التعاقدي بين العامل وصاحب العمل ولا جزءا منه، ولا يخرج عن كونه من القرارات الإدارية التي يختص الديوان بنظر الطعن فيها».

أما عن الحالة الثانية: فمن أشهر أمثلتها المبدأ رقم (1) لعام 1441هـ بشأن الطلب المقدم من الدائرة الثانية بالمحكمة الإدارية العليا للعدول عن المبدأ الصادر عن الدائرة نفسها والقاضي بعدم اختصاص ديوان المظالم بإصدار الأمر بتنفيذ السندات الإدارية، وتلى ذلك أن عدلت الهيئة العامة عن المبدأ الصادر من الدائرة الثانية، وقررت مبدأ آخر يقضي باختصاص ديوان المظالم بإصدار الأمر بتنفيذ السندات الإدارية، ويلزم علينا بيان أن هذا المبدأ كان قبيل صدور نظام التنفيذ أمام ديوان المظالم - والذي أفردنا له مقالة سابقة منشورة بصحيفة مكة بتاريخ 2/10/2021م بعنوان «ملامح نظام التنفيذ أمام ديوان المظالم» - والذي لم يدخل حيز التنفيذ حتى تاريخ كتابة هذه السطور.

وتجدر الإشارة إلى أن المتأمل لنظام ديوان المظالم وعلى وجه الخصوص لنص المادة (10) يستخلص أن الهيئة العامة للمحكمة الإدارية العليا لا تقرر مبادئ عامة من تلقاء نفسها وإنما يعرض عليها طلب العدول عن مبدأ سبق أن قررته إحدى دوائر المحكمة، وهذا بخلاف نظيرتها في القضاء العام (الهيئة العامة للمحكمة العليا) التي لها العدول أو أن تقرر مبادئ قضائية عامة من تلقاء نفسها كما جرى بسطه في مقالنا المشار إليه في المقدمة.

بعد بياننا لما يصدر عن المحكمة الإدارية العليا (أي المبادئ أو الأحكام)، فإن جوابنا على السؤال الأساسي هو أن ما يصدر عنها من أحكام من حيث الأصل غير ملزم -بخلاف القضية محل النظر - وذلك لأن المحاكم غير ملزمة إلا بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وفق ما دل عليه الكتاب والسنة وما يصدره ولي الأمر من أنظمة وفقا لما نصت عليه المادة (48) من النظام الأساسي للحكم والمادة (1) من نظام المرافعات أمام ديوان المظالم، وما قرره الفقهاء من أن «الاجتهاد لا ينقض بمثله»؛ وبناء على ذلك يمكننا القول أن الأحكام القضائية الصادرة عن المحكمة الإدارية العليا غير ملزمة إذ إننا لم نجد نصا يقرر إلزاميتها بوجهها العام.

أما ما يصدر عن المحكمة الإدارية العليا ويتضمن في طياته ما يجسد معنى المبدأ القضائي - بحسب ما جرى بسطه أعلاه - فهو ملزم استنادا إلى المادة رقم (11/أ) من نظام ديوان المظالم، التي تقضي بأن الحكم المخالف لمبدأ قضائي تقرر في حكم صادر من المحكمة الإدارية العليا موجب للنقض، وهو ما يفهم منها الإلزامية، وهذا بخلاف ما ورد في نظام القضاء الذي لم يعتبر مخالفة مبدأ من المحكمة العليا في القضاء العام من أسباب النقض، وهو ما يتفق مع ما نهجه المنظم في نظام المحاكم التجارية إذ إن أحد أسباب النقض -في نظام المحاكم التجارية- مخالفة الحكم لمبدأ صادر من المحكمة العليا في القضاء العام وفق ما نصت عليه المادة (88/أ)، وذلكم الأمر الذي جعلنا نعتقد بثقة أن مبادئ المحكمة العليا (في القضاء العام) غير ملزمة من الناحية النظامية لعدم تقرير النقض لمخالفتها كحال ما جاء به نظام ديوان المظالم وكما فصلنا في مقالنا السابق.

ومختصر القول ولوضع النقاط على الحروف بشأن منظومة المحاكم في المملكة (بشقيها الإداري والعام): نقول من الناحية النظامية «إن كافة (الأحكام) سواء من المحكمة العليا في القضاء العام أو من المحكمة الإدارية العليا؛ غير ملزمة - بخلاف القضية محل النظر - أما عن (المبادئ) فالملزم منها فقط الصادرة عن المحكمة الإدارية العليا وكذلك الصادرة عن المحكمة العليا في القضاء العام وذلك في الدعاوى التجارية فقط دون سواها، وكل ذلك جاء إعمالا لنصوص نظامية خاصة».

ختاما، تجدر الإشارة إلى أن ديوان المظالم قد نشر مؤخرا عددا من الأحكام الصادرة عن المحكمة الإدارية العليا وفقا لاختصاصاته المنصوص عليها في المادة (21) من نظامه، وذلك بتبويب وفهرسة المبدأ وما يرتبط به من حكم، وآملين من الديوان استكمال هذا الجهد المبارك بنشر كافة الأحكام والمبادئ الصادرة عن المحكمة الإدارية العليا بشكل دوري.

@aleisaHamed