هتون أجواد الفاسي

كيف يمكن لابنة أن ترثي أباها؟

الأربعاء - 29 مارس 2023

Wed - 29 Mar 2023

شهر رمضان كان بالنسبة لنا في أسرتنا هو الشهر الذي تجتمع فيه العائلة، وهو الذي يجمع فيه والديّ أهلنا وأصدقاءنا في ليلة رمضانية سنوية تجمع الرحم وتعيد التقاليد الجميلة بصبغة عصرية فيها الكلمة والحكمة والفكرة، وفيها الأطباق التقليدية التي ينتظرها الجميع من أمي والتي لا يحسنها سواها من أطباق جدة وتلك التي علمها أبي لأمي من أطباق مكة.. كانت الليلة الرمضانية تقام في دارنا بالرياض منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى انتقل والديّ إلى مكة المكرمة، مسقط رأس أبي، في نهاية التسعينيات، واستمرت العادة الرمضانية التي كانت شيئا جديدا على مجتمع مكة، لكنها كانت المناسبة التي ينتظرها الجميع من العام للعام، فيتقاطر عليها الضيوف من مكة وجدة والطائف وأنا كنت أحرص على موافاتهم من أي مكان في العالم كنت فيه. استعدادات تسبق رمضان بشهرين على الأقل وتظهر في هذه المناسبة الفن الاجتماعي الذي كان عليه أبي وما زالت عليه أمي في الاستضافة وإشعار كل ضيفة وكل ضيف بأنهم الأهم.

كان شغف والدي الأكبر هو في تجميع العائلة وربطها ببعضها وتجذير علاقاتها بعضها ببعض.

ودوما يقول إن صلة الرحم تطيل العمر. وقد أطالت عمره رحمه الله بعد أن توفي كل أخوته وأخواته وأبناء عمومته إلا من عمي الصغير مهدي، مد الله في عمره.

لكن يوم الحق وصل.. وكان ذلك في الخامس من رمضان الماضي 1443هـ.

في «حوله» مازال في القلب حرقة لا تريد أن تُطفأ وتحت العين دموع محبوسة غير تلك التي تلفظها قنواتي الدمعية المسدودة، في حلقي صرخة لم أطلقها وأنا في حالة عدم التصديق الأولية، فلم يكن يشكو من شيء، إلا أنها إرادة الله الذي اختار له رمضان لينقله إلى جواره، بإذنه تعالى. مرت سنة والحال غير الحال وما زلنا نلملم جراحنا وذكرياتنا وما تركه لنا من إرث علمي لا يقدر بثمن، نقرأ فيه حينا ونتناقش فيه حينا مع إخوتي وأمي، حفظها الله، نسأل الله اللطف والرحمة.

نحاول أن نخفف عن أمي قبلنا جميعا مصابها في رفيق الدرب الذي عاشت إلى جانبه أربعا وستين سنة هجرية كانا يريدان الاحتفال بها وقد حضّرَت الفستان الذي تريد أن تُزف فيه إلى جانبه مرة أخرى، فأجده مفرودا على سريره، مسجّى.

كان والدي، أبو هتون، رجلا فريدا، كما هو الحال في عين كل ابنة، لكني أعتقد أنه كان أكثر من ذلك ولست وحدي التي كنت معجبة بأبيها وإنما كان هو من يستحق ذلك. أمي تطلق عليه اسم الرجل النبيل، الذي لم تسمع منه طيلة هذا العمر كلمة تؤذيها أو تعكر عليها حياتها، كان الزوج المحب الذي لا يستمتع بشيء إلا وأمي إلى جانبه تستمتع به مثله، فقد أمي لا يقارن ولا يعوض مهما حاولنا، الله يجبر قلبها. كان المثال الصعب للزوج المثالي الذي واجهنا أنا وأختي هوازن ونحن نتوسم هذه الصفات في اختيارات أزواجنا والتي لم تنجح إلا بدعواته ودعوات أمي ولله الحمد. كما واجهت أخي محمد ليكون على منواله، رفيقا حليما كريما وبأسرته جديرا.

كانت عسكرية أبي لا تبدو في البيت إلا في حبه لانضباط الوقت والمواعيد، فلا يمارس علينا سلطات ممجوجة ولا تحكمات أو تدخلات في حياتنا، كانت قيادته العسكرية في عمله فحسب، وسوى ذلك كانت حياتنا مضبوطة بالمشاركة في القرارات، واستعراض كل الآراء وتقبل الاختلاف في الأفكار. كان يراجع معنا مواضيع ما ندرسه في المدرسة ويصحح ما يراه تجاوزا أو مغالاة من وقت مبكر، فجنبنا الكثير من استعدادات التطرف التي كانت سائدة في فترة دراستنا.

كان أجواد الفاسي رجلا مسؤولا وصاحب موقف وفكر ورؤية متقدمة كانت تلازمه منذ عهد مبكر من حياته. عبر عن ذلك في كثير من كتاباته التي بدأها بإنشائه ورئاسته لتحرير مجلتي وزارة الدفاع والكلية الحربية، وكتابة افتتاحياتها، ودواوينه وكتبه، وأيضا في خطبه التي بدأها منذ كان طالب ثانوية بمدرسة تحضير البعثات بمكة المكرمة منتخبا عام 1950م سكرتيرا عاما للمسامرات الأدبية التي كانت تجهز الطلبة للابتعاث إلى مصر في الخمسينيات، واستمر وهو في الجيش رئيسا للنشاط الثقافي والاجتماعي، ومديرا عاما الشؤون العامة والتوجيه المعنوي للقوات المسلحة السعودية بين عامي 1960-1964، وأستاذا للطبوغرافية والقانون العسكري والتاريخ العسكري. كان نشاطه ومبادراته ورؤاه تمتد إلى كل جميع أطياف حياته، العسكرية والمدنية، بل والرياضية.

كان نادي الوحدة ذو مكانة أثيرة في نفسه، فهو نادي مكة المكرمة الوحيد، وعلى الرغم من ذلك يشكو من الكثير ويعيش على ماض كان تليدا. كانت لبابا صولات وجولات في إعادة إحياء النادي وتحويله إلى ناد ثقافي اجتماعي بالإضافي إلى الرياضي منذ أن كنا في الرياض بترؤسه لمجلس أسرة الوحدة في الرياض، لكن في مكة خاض انتخابات مجلس شرف نادي الوحدة وناله بتزكية سمو الأمير سلطان بن فهد. لكن في اعتباري كان أهم ما يتعلق بقصة الوحدة هي برنامج الوالد الانتخابي الذي كان وأنا أنظر فيه اليوم، متقدما بسنوات ضوئية على زمنه.

على الرغم من التحديات الكثيرة التي مر بها في حياته إلا أنه كان يخرج من كل تحد وهو أقوى وأصمد، وهو ما تعلمناه منه بالنموذج العملي. غرس في نفوسنا منذ نعومة أظفارنا أنه للعيش في عزة وكرامة علينا خشية الله في حب، والتمسك باللب دون القشور، والحرص على نظافة السريرة في التعاطي مع الحياة والبشر، وقبل ذلك كله، التوكل على الله مع العمل.

وما زال في الجعبة الكثير.

رحمة الله عليك يا أبي، وأسدل عليك من فضله وأفاض عليك من رضاه وعفوه.. آمين.