هتون أجواد الفاسي

الجزيرة العربية وصناعة الغرب.. قراءة في كتاب واريك بول

الجمعة - 24 مارس 2023

Fri - 24 Mar 2023

كانت رحلة قراءة كتاب خارج الجزيرة العربية: الفينيقيون، العرب واكتشاف أوروبا Out of Arabia، للكاتب والآثاري الدكتور واريك بول Warwick Ball، رحلة اكتشاف لدراساته وأبحاثه ومقارباته التاريخية المختلفة والتجديدية بالنسبة لكتاب وعلماء الغرب.

والذي يستدعي مشاركتكم قراءة هذا الكتاب، هي حالة الإنصاف غير المعتادة التي يقوم بها هذا الكاتب تجاه تاريخ كل الشعوب غير الأوروبية، وعلى رأسها في هذا الكتاب العرب، منذ فجر التاريخ ومنذ كانوا فينيقيين.

وهو الجزء الأول من سلسلة من أربعة أجزاء، تتناول انتشار الحضارة الإنسانية من الشرق إلى أوروبا في اتجاه معاكس للقصة المعتادة. في الجزء الثاني يتناول فارس، وفي الثالث العثمانيين، وفي الرابع يتناول بوابات أوروبا وحدودها مع سهوب أوراسيا، أي المغول على الأرجح.

والكاتب عالم آثار وكاتب أسترالي، يعيش اليوم في أسكتلندا، قام بالتنقيب في كثير من المواقع في أفغانستان، إيران، العراق، الأردن وغيرها، ونشر كثيرا من الدراسات حول الشرق الأدنى وآثاره وتاريخه، لكن هذه السلسلة تلخص اتجاهه الفريد في قراءة التاريخ.

في فصوله الأحد عشر في الكتاب الذي نشر عام 2010، يقوم بول بقلب بوصلة التاريخ الأوروبي، ونقل مركزيته إلى مركز آخر، وهو الجزيرة العربية وما حولها في غرب آسيا.

يبدأ بذلك من عناوين فصوله التي تتمركز حول العرب وفروعهم وأصولهم، من الفينيقيين إلى الممالك العربية قبل الإسلام، إلى الأباطرة العرب الذين حكموا روما، إلى الإسلام وبعثة الرسول، وعلاقة الامبراطوريات الإسلامية الأولى بأوروبا، ثم خلفاء وأمراء وسادة إسبانيا، ومن بعدها البحث عن العرب والمسلمين في صقلية، إيطاليا، فرنسا، سويسرا. ويستطرد بعمق في قضية الحروب الصليبية، ثم يتناول المحيط الهندي الذي يعتبره بحيرة عربية قبل وبعد مجيء الأوروبيين إليه، وينهي الكتاب بفصل عن الرحلات واستكشاف العالم القديم والجديد، الذي بدأه العرب قبل الأوروبيين بقرون طويلة، ويخصص فصلا طويلا للحديث عن ديانات غرب آسيا التي تقمصتها أوروبا واعتبرتها دينها، سواء كانت ديانات العرب القديمة أو المسيحية.

يراجع بول على طول الكتاب وعرضه مقولات الأوروبيين، من مؤرخين أو علماء اجتماع أو سياسيين، حول المفهوم الجوهري للحضارة ودلالتها وأدلتها لدى ما يعرف بأوروبا، وما هو أصيل وما هو مقتبس، يراجع تواريخ السنين ويعتمد في غالب مصادره على المصادر الأوروبية نفسها، التي تناقض نفسها في التعامل مع الحقائق، محاولة دوما أن تنسب السبق والجذور إليها.

يقوم واريك بول عبر متابعته المتأنية لتاريخ الشعوب الأخرى، وكيف أثرت في أوروبا وكيف صنعت تاريخها وحضارتها بإعادة تسمية الأشياء بمسمياتها، فمثلا البحر المتوسط والذي عُرف بالبحر الروماني ابتداء من القرن الثاني ق.م، كان في الواقع بحرا فينيقيا بامتياز ولقرابة ألف عام. ثم يفصل الحديث عن الفينيقيين وتجارتهم وأولية وصولهم إلى كل زاوية من زوايا الأرض المعروفة آنذاك، والتي حاولوا اكتشافها بما فيها غرب أفريقيا وشمال غرب أوروبا، لكن يبدو أن أوروبا وما وراء السواحل الجنوبية لها لم تكن مهمة للتوسع، لكن هذا لم يمنع الفينيقيين من تأسيس المدن على سواحل المتوسط خارج لبنان، إلى تونس حيث أسسوا قرطاج (أول مستعمرة خارج فينيقيا كانت امرأة، وهي الملكة إليسار أو عليسة)، وإلى إسبانيا حيث أسسوا قرطاجنة واستوطنوا جنوب إسبانيا فيما عرف بالأندلس فيما بعد، وذلك قبل وصول الإسلام إليها بألف سنة، وإلى مرسيليا وصقلية وجنوب إيطاليا وقبرص ورودس وكريت.

وكان لا بد من الإشارة إلى نقل الفينيقيين أبجديتهم إلى أوروبا التي اقتبسها الإغريق منهم، والتي ما زالت تحمل مسمياتها في الألفا، بيتا، جاما، دلتا، الموازية لأبجد.

وعند تناوله للعرب قبل الإسلام، كان ذلك للحديث عن ممالك جنوب الجزيرة وشمالها وغربها وشرقها، ووصول هذه الممالك بتجارتهم وآلهتهم وحضارتهم إلى قلب أوروبا، فتحدث عن الجالية النبطية في إيطاليا والجالية التدمرية في بريطانيا والجالية المعينية في مصر، لكنه كان مهتما قبل كل ذلك بتفنيد طروحات الأوروبية الفوقية، أو المصطلحات الاستعمارية في اتجاهاتها لتصوير العرب، إما وكأنهم فقاعة ظهروا على وجه التاريخ مع الإسلام، أو أنهم كانوا مجرد بدو برابرة يعيشون على أطراف الصحراء في انتظار الفرصة للانقضاض على مجتمعات الزراعة والحضارة.

في حين أن التاريخ الاجتماعي للجزيرة العربية والعرب يعي بأن العلاقة بين البدو والحضر كانت علاقة اعتماد متبادل لكل منهما على الآخر، وأن حضارة الشرق الأدنى كانت نتاج هذه العلاقة التفاعلية.

يشير واريك بول إلى أن دراية العرب بالكتابة لم تكن تقل عن المجتمعات الإغريقية - الرومانية - الآرامية، ودليل ذلك آلاف الكتابات والنقوش المنتشرة على سفوح جبال الصحاري والوديان، بكتابات تطورت منذ ما قبل الألف الأول قبل الميلاد، فيما يعرف اليوم بكتابات البادية الصفوية والثمودية، والتي تعني أن هناك عددا كبيرا في هذه المجتمعات المبكرة كانت تكتب وتقرأ، وهذا الشعب الذي عندما وصله الدين الإسلامي كان لا يقل عن معاصريه في قدرته على حمل الرسالة وتحويلها إلى رسالة علم ومعرفة.

لا يمكن أن أنصف أطروحة هذا الكتاب وأنا لم أقطع في هذه العجالة إلا بضع صفحات، لكن لأختم بإحدى جمله التي كان يواجه بها الغرب في تصنعه وتغطرسه، واعتقاده أنه يحمل العلم والتحضر إلى العالم الذي يعتبر كل ما ليس أوروبيا مسيحيا، فهو متخلف وهرطقي. كانت مواجهته لعقدة التفوق الأوروبي المسيحي بتذكيرهم بأصل المسيحية الناصرية والبيت لحمية ومرجعيتها الفلسطينية، وكيف أنهم يعلون في الواقع من أحد الأديان التي يعتبرون أهلها متخلفين فكريا وعقائديا.