بسمة السيوفي

التجويع

الأربعاء - 15 مارس 2023

Wed - 15 Mar 2023

هل أنت شخص متزن؟ هل يحق لأحد أن يصفك أو يقيمك بناء على عناصر محددة؟ تلكم أسئلة تدور في فلك العلاقات الشخصية، وحتى العلاقة مع الذات. يحضر إلى ذاكرتي علم النفس الإيجابي كلما تفكرت في تصرفات البعض.. وجفاف البعض.. وحنان الآخرين. يرتبط مفهوم علم النفس الإيجابي بعلاقتي مع قامة علمية رحلت عن عالمنا وفقدها الكثيرون هي الدكتورة صفاء الأعسر رحمها الله. حوارات كثيرة دارت بيننا بصدق وعفوية، كانت بمثابة الدفء للقلب البارد وللعقل المزدحم بالمسؤوليات عن المباح وغير المباح. جميل أن تجلس إلى قلب إيجابي يجد لك مخرجا لأي مأزق.. يلون لك السحاب فتكون ممتنا أن السماء غائمة.. هكذا كانت وستظل بعد رحيلها، وهكذا يظل بعض الأشخاص في عالمنا، يشبعونك عاطفة ذات معنى فتتأقلم مع حياتك بشكل متزن أكثر.

دعوني أعرج بكم سريعا على مفاهيم علم النفس الإيجابي وعلاقتها بالشخصية والاتزان الانفعالي، فقد تأسس هذا العلم على اعتقاد أن البشر يسعون لأن يحيوا حياة طيبة مشبعة ذات معنى، وأن ينمّوا أفضل ما لديهم، ويرتقوا بخبراتهم.

ويأتي التركيز على ثلاث مجالات رئيسة: الانفعالات الإيجابية، السمات الشخصية الإيجابية، المؤسسات الإيجابية، والمقصود بفهم الانفعالات الإيجابية دراسة الرضا عن الماضي، والسعادة في الحاضر، والأمل في المستقبل. المرء نتاج قراراته وليس ظروفه.. وبالتالي فإن السمات الشخصية الإيجابية تتركز في الفضائل كالشجاعة والتراحم، الصمود، الإبداع، وحب الاستطلاع، ومعرفة الذات، والحكمة.

وفي كتاب مترجم للدكتورة وآخرين عنوانه «السعادة الحقيقية» هناك مقاييس علمية لمستوى الرضا عن الحياة، ومقاييس لمستوى السعادة تركز على التدوين في سطور عن 5 أشياء في حياتك تكون ممتنا لها أو شاكرا عليها، في الـ 24 ساعة التي مضت من يومك، وبعد 14 يوما أعد تطبيق التمرين لتقارن درجاتك بما حصلت عليه سابقا، وإن كانت النتائج مشجعة فاجعل هذا الإجراء جزءا من حياتك.. أنت بذلك تركز على الجانب المضيء من أحداث عمرك، وتوسع دائرة الوعي بها ممتنا وشاكرا للوهّاب.

الجوع أو التجويع العاطفي للعلاقة مع الذات أو مع الآخرين، يقابله الإشباع العاطفي، هو حالة من تعويد الذات الإنسانية على الخسارة وتقبل التحديات المختلفة مهما كانت، والسؤال هنا يا ترى ما سبب اختلاف ردود أفعال الأشخاص تجاه موقف معين؟ ولماذا تختلف ردة الفعل تجاه موقف ما في أوقات مختلفة؟ هناك عناصر تحدد سمات كل فرد في هذه المواقف، وتظهر الفروقات الفردية منها: الاتزان العاطفي، الرحابة، الالتزام، الانبساطية، وأخيرا الود.

مفهوم التجويع العاطفي مع الزوج مثلا من الموضوعات التي يتكرر مناقشتها في مواقع التواصل وتركز على موضوع منح الاهتمام والحصول على الاهتمام من الطرف الآخر، وكأن كل طرف يلجأ إلى الألعاب النفسية داخل إطار يتخلى فيه عن العمق في معنى الارتباط الوثيق. في رأيي أنه عندما تأمن في العلاقة، فإن هذه الألعاب النفسية تتخاذل.. وتتكشف تلك القشرة الصلبة في الشخصية، يصبح هناك ثقة في تبادل العطاء، ثقة في الأفعال والأخطاء وحتى الحماقات، كما أن الاتزان لا يعني أنك ستلعب دور المانح والمضحي والحاصل على الإعجاب، فهذا استغلال واستنقاص لما بين الطرفين. والأمر ذاته يندرج على باقي العلاقات الإنسانية، فالإشباع حتى التخمة أيضا هو نوع من أنواع الإساءة النفسية التي قد تكون ضارة أكثر من مجدية، فالإشباع الزائد يورث الملل والتمادي والتمرد.

في علاقاتنا الإنسانية نحن لا ننسى، كما يقول مصطفى محمود: «كل تجاربنا وعواطفنا وخبراتنا مهما بلغت من الهوان والتفاهة هي مغروسة في الوعي، لا تفنى ولا تستحدث، وكل أسرار قلوبنا ووجداننا غير قابلة للاندثار، كل ما في الأمر أنها تنطمس تحت سطح الوعي وتتراكم في عقلنا الباطن، لتظهر مرة أخرى في أشكال جديدة، في زلة لسان، أو نوبة غضب أو حلم غريب ذات ليلة».

وكم صبرنا على أناس في تجاوزهم وقسوتهم عبر زلات اللسان واستنقاص الفعل وسوء التقدير، لأن الوازع الأكبر الذي يحركنا هو أبعاد العلاقة ومآلاتها.. والامتنان والفضل للحظات جميلة تحملها الذاكرة ولا تريد لها تشويها. فالإخلاء أعداء إلا المتقين.. واختلال التوازن العاطفي يكون حاضرا عندما تتراكم الكثير من المشاعر السلبية كالقلق، الاكتئاب، الغضب، الانشغال بالذات، الغلو والإفراط، والحساسية الزائدة تجاه الأمور.

وفي كل مرة تشعر بها بفقدان التوازن العاطفي نتيجة سوء تقدير من حولك اسأل نفسك: ما الدرس الذي يمكنني تعلمه؟ أنت بذلك تنمو داخليا وعاطفيا، فكر واقعيا وحقيقيا في الأمر، وفكر في سبب الغضب من هذا التصرف، لا تقمع الشعور.. أكتبه في ورقة ومزقها، ضع صورة الشخص على وسادة وألكمها آلاف المرات أو أطلق عليها الرصاص، أن تكون إيجابيا لا يعني ألا تمر بأوقات عصيبة أو ألا تشعر بالحزن والإحباط، وإنما يعني حسن التعامل مع المواقف السيئة وعدم السماح لها بالسيطرة عليك لفترات طويلة.

التوازن في العلاقات له اتجاهات ثلاث: الله والنفس والناس.. «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن». الفرق الكبير الذي سيحدث عند تعاملك مع المواقف المختلفة لتحافظ على الاتزان هو استمرارية التعاطي مع العلاقات بإيجابية وتسامح بلا إفراط في التجويع ولا إشباع حتى التخمة.

الاتزان النفسي حالة يقينية تجعلك من المحظوظين؛ لأنك تحيا دون انتظار للوصفة السحرية، شعارك هو: 990 جرام من العاطفة الممنوحة يكفي، لا تصل إلى الكيلو جرام أبدا، ولا تفتح فمك شاكيا وإلا ملأت الدنيا آهات.