هتون أجواد الفاسي

وما زلنا نقطع درب زبيدة بخيولنا

الثلاثاء - 07 مارس 2023

Tue - 07 Mar 2023

على ذكر رحلة قافلة درب زبيدة للعام الثالث والتي رافقتها على الخيل، كانت هناك وقفات جميلة تكلل تلك الأيام الثلاثة في قلب صحاري منطقة حائل الممتدة من مدينة فيد إلى توز على درب السيدة زبيدة التاريخي.

كانت الصحبة الإنسانية برفقة الفارسة الرقيقة ياسمين بوجان خبيرة التغذية العلاجية الإكلينيكية والمغامرة التي لا يوقفها إلا عنان السماء، والخبير السايبري والتقني الفارس يزيد الغامدي على الحصان ثنيان الذي كان يحمل خبرة طويلة في الفروسية وفي طبائع الخيول وخفة ظل رافقتنا طيلة الرحلة، وتنقل على الحصان الرابع كل من نواف النفيسة وزوجته دكتورة يم أبو الحمايل وعبدالله بوخمسين، مستبدلين دراجاتهم بالحصان رماح، فأضاف كل منهم متعة وتحديا جميلا إلى تجربتنا المشتركة، يرافقنا خلال ذلك السايس أبو عبدالوهاب الخبير الشعري الذي لم يتوقف عن سرد ما يحفظ من المرويات الشعرية المتصلة بالخيول من عيون الشعر العربي بطلاقة جذابة، وناصر الناصر، سايس نادي الثنيان التي وفرت خيولنا من تبوك والذي قص علينا قصة ثنيان الذي يركبه يزيد بعد أن كاد يهلك حتى أطلقوا اسم النادي عليه، ومرافقنا الثالث كان الدكتور ناصر الهذال، طبيب درب زبيدة البيطري الذي كان مسؤولا عن الركايب بالدرجة الأولى لكنه أشرف أيضا على مسيرتنا وأمننا وأمن خيولنا بخبرته الطويلة في جراحة الحيوانات الكبيرة.

كانت القصص كثيرة مع كل حصان من الأحصنة الخمسة التي رافقتنا، والتي أصبحت أربعة بعد اليوم الأول بعد إصابة فاروق، خيل ياسمين الذي انخلعت حدوته وأصيبت ساقه فاضطر السياس إلى إبقائه في المخيم وانتقلت ياسمين لركوب كريم الذي استطاعت ترويضه بعد أن كان عصبيا في يومه الأول.

كنا حذرين في أجزاء الطريق الحجرية والصخرية صغارها وكبارها ثم نطلق للخيول العنان في الأرض السهلة والآمنة، وما بين ذلك تحاول الخيول البقاء بجانب بعضها البعض وقد تغضب إذا ابتعد أحدهم وتحاول اللحاق بها حتى لو كان أمرها أن تركن إلى المشي البطيء أو الهذب السريع، وبقي هذا الصراع طوال الطريق خلال الأيام الثلاثة. وقد تخلل ذلك فرصة الاستمتاع بالمحيط الجميل من الربيع المترامي والجبال التي تحدد الأفق بخطوطها الحادة واندماج لون سفوحها مع ألوان الصحراء والسماء فتغدو وكأنها سلسلة جبال معلقة.

أما غيم اليوم الثاني فقد جعل السماء تكمل صورتها الربانية المبهرة. لكن الإبهار الأكبر كان ليلا، في غرة شعبان التي ترصعت سماؤها بالنجوم الألماسية البراقة في خطوط قبة السماء المسبّحة بقدرة الخالق، وانحناءة الهلال الذي يتوسط جانب السماء في ابتسامة فضية رقيقة. وعلى الرغم من محاضرة علي بن قيراط خفيفة الظل والمليئة بالمعلومات والإثارة للنظر في السماء واستجلاء أسرارها إلا أننا لم نكتف ولن نكتفي من تلك المتعة السحرية.

كانت الأمسيات كما هي أمسيات الدرب، فيها الثقافة والسمر، فما بين المحاضرات القصيرة لنخبة من المشاركات والمشاركين على الدرب إلى سامري حائل الذي يلي أهازيجه وتطريباته العشاء فينخرط الصفان المتقابلان في رد وجواب تعينهما الدفوف المحماة على وجار الشتاء.

طُلب مني أن أحضّر لإحدى هذه الفقرات نبذة عن كتاب (دليل روتلدج للمرأة في الشرق الأوسط) Routledge Handbook for Women in the Middle East الذي صدر قبل شهر وشاركت فيه بفصلين من فصوله الخمسة والأربعين ضمن واحد وخمسين باحثة مشاركة، والتي كانت عن المرأة في الشرق الأوسط القديم والمرأة في الشرق الأوسط الإسلامي على التوالي. فكانت فرصة جميلة وسريعة للحديث عن بعض أهم نقاط المشاركة في كتاب من هذا النوع ودلالة مصطلح الشرق الأوسط وما تناولته في فصله الثاني من حديث عن السيدة زبيدة ودربها.

على الرغم من أن هذا الجزء من الدرب كنت قد مشيته مرة وركبت الدراجة عليه مرة ثانية، إلا أن المشي عليه فوق الحصان وفي فبراير وليس يناير وبعد أسابيع من الأمطار التي غسلت كل صحاري المملكة، سمح لي بمشاهدة درب زبيدة آخر وقد تحولت السهول والوديان الجرداء إلى ألوان لا متناهية من الخضرة والبنفسج ما جعل الخيول ما تنفك تريد الانفلات في هذه الفيافي. كنا نعبّ والخيول تخطو أو تخبّ، من عبق الأجواء المعتدلة الهواء ونسرح النظر إلى الفضاء اللامتناهي وقد اتسع من فوق ظهر الحصان، نستمتع ونتأمل.

صوت عصافير الربيع المبكر كان ذا وقع خلاب.. لا تدري من أين يأتيك.. تسمعها ولا تراها.. لكن إحدى رحّالاتنا عثرت على بيضها. ورحالة أخرى مختصة في البيئة أعلنت لنا بأن هذا البيض هو بيض الصعو. ونظرا لأني لم أسمع به من قبل فقد زودتنا بعد ذلك بتعريف طويل لهذا الطائر النادر الذي يُضرب به المثل في تعجيز الوصول إلى بيضه.. وها نحن نعثر عليه هنا. كان من بين ما عُثر عليه في الطريق نوع من الفطر البري الذي يشبه المسامير في شكله وصلابته، وآخرون نجحوا في الوصول إلى شيء من الفقع في الأرض التي تلت أم هروج.

وسحر الطبيعة ما ينفك يسلب الألباب بكل تحدياتها.