علي قطب

جغرافيا السرد والتقارب الحضاري في رواية أيام الشمس المشرقة

الاثنين - 06 مارس 2023

Mon - 06 Mar 2023

هل يمكن للسرديات المعاصرة أن تصنع مقاربة حضارية بين الشمال والجنوب والشرق والغرب؟ أو أن ما نظن أنه فجوة هو وهم لقناع تكنولوجي يمكن أن تنزعه الكتابة الإبداعية، فإذا بالإنسان واحد هنا وهناك وفي كل الأمكنة، وربما كل الأزمنة أيضا. هذا الطرح هو الفرضية التي يستطيع قارئ رواية أيام الشمس المشرقة لميرال الطحاوي أن يدركه مع مطالعته للدراما الروائية التي يبثها السرد أو ذاك الألم الكامن بين السطور، نستشفه من المفارقة التي تضيف بها ميرال تقنية فنية تدير عالمين أحدهما ظاهر والآخر خفي، لكنهما متكاملان بل يحرك كل منهما الآخر ويتحرك في اتجاهه.

تنطلق الرواية من ذاك العنوان الملتبس المراوغ فهو يَعِدُ القارئ بعالم رومانسي حافل بالدفء والمودة، كأنه مقطع من قصيدة قديمة تتردد في الوجدان الشرقي، فيظن المتلقي أن مساحة أخرى في العالم تنتظره بحيويتها؛ فتبدد الغيوم التي تتداولها وسائل الإعلام اليومية كل لحظة. فلم تعد هناك مواعيد ثابتة للأخبار، كما كان في الزمن القديم، بل أصبحت تخترق حواس البشر ومشاعرهم دون إنذار مسبق بدقات الساعة. لكن العبارة العنوانية ما تلبث أن تقدم إشكالية لذاك الباحث عن عالم آخر أكثر بهاء من عالمه الواقعي والافتراضي حينما يمعن النظر بشيء من التحليل العقلاني للعنوان ويضعه في محل المساءلة. فإذا الدلالة تتضح أمامه بصورة أخرى تصيبه بالحيرة، فهل تملك البشرية في حساب الوقت سوى الأيام؟! هل يحسب الوقت في أي مكان في العالم دون الأيام؟َ! عند ذاك الحد سيبدو العنوان مدهشا فهو يتحدث عن كل الأمكنة من خلال الزمن.

إن كل مكان في العالم هو متوالية أيام، هذه الأيام تتحقق نتيجة إشراق الشمس، بالتالي فالشمس تشرق على الإنسانية كلها، على قاراتها الخمس، وهي شمس واحدة نظنها خاصة بنا نحن، فإذا بها تطلع في الجهة الأخرى أيضا، تلك الجهة التي نقول عنها الغرب مع أن الأرض كروية يمكن أن يكون شرقها غربها والعكس. فالأيام واحدة في حساب الزمن، والشمس التي ترتبط بها الأرض واحدة في المجرة الكونية التي يوجد بها الجنس البشري وإشراق الشمس هو ظاهرة يومية عبر الفضاء الكوني في الجهات الأربع.

من هذه الناحية يستطيع القارئ أن يلاحظ المفارقة فهو يبحث الفضاء الآخر، لكن العنوان خدعه وقدم له الأماكن كلها في مدار واحد، لذلك هو سيطالع الآخر وسيطالع نفسه؛ لأن الشمس ستشرق عنده وتسير بحسابها الدقيق مشرقة على الآخرين جميعا. فكلنا ذات وكلنا آخر، نحيا في كروية الأرض، مثلما تمر الشمس على القارات الخمس. يلتقط العنوان هذه البنية الدائرية، تتكون رواية ميرال ببناء محكم يدعو للدهشة من خمسة فصول توازي خمس قارات تحتوي البشر باختلاف الألوان واللغات ومظاهر الثقافة، بينما الجوهر واحد وهو إنسانيتنا التي تفر من شمس إلى شمس تظنها أخرى، فإذا بشمسها تدركها أينما كانت.

ينمو العالم الدرامي في رواية أيام الشمس المشرقة متخذا من الجغرافيا الطبيعية عناصره، فيكاد المتلقي يرى الفضاء بأشكاله المتنوعة وهو يتشكل أمامه كأنه في الأزمنة الأولى لبداية الإنسانية، إننا نرى السهول والخلجان والجبال والهضاب بشكل محوري يتجاوز البنايات والمصانع والمدارس، أي أن الأولية في التكوين الروائي للحالة الخام التي ضمت الإنسان منذ مطلع تجربته الأرضية، هنا تقول الرواية إن الصورة الإنسانية واحدة، فالجغرافيا متكررة يمكن أن نراها في أقاليم متنوعة، مع ذلك فالنماذج البشرية تظن أن العالم ينحو إلى التغيير في حين أن بإمكانها إقامة عالمها الجميل وفقا لمعطيات الطبيعة والمعالجة العلمية لها والمكون الأخلاقي الذي يسمح بصياغة فضاء مستنير.

إن الطبيعة عند ميرال تشمل البيئة الجغرافية والكائنات التي تنشأ داخل هذه البيئة، فنجد الأرض وعالمها، والبحر وما به من عوالم، والفضاء بأسراره الكونية، كل هذا أمام الإنسان أو يعيش فيه الإنسان مثلما تعيش فيه الكائنات المختلفة. يمتلك الإنسان العقل لكنه لم يستطع أن يخرج من الكهف البدائي القديم؛ فتغلب عليه نزعاته العدوانية أحيانا التي يسلطها على نفسه مثلما يسلطها على الآخرين، ومهما وصل من العلم فإنه يحاول أن يصنع أسطورة بعلمه مثل الإنسان البدائي، من هذا التوجه تتكرر الأزمة الإنسانية في ظل المفارقة الجغرافية، فالإنسان أينما يكن ستكون لديه مشاكله التي ربما تتغير في ظاهرها وإن ظلت واحدة في جوهرها، وهي ظنه أن مكانه لا يليق به وأنه يستحق المزيد، وأنه مظلوم؛ لذلك سنجد أن النماذج البدائية أو النموذج البدائي عند ميرال هو الذي يبقى، بل يتنصل من النموذج الذي يدعي الثقافة مثلما حدث في نهاية الرواية بين تملص نعم الخباز من نجوى، إن هذه المفارقة لم يجد النسق الثقافي لها حلا، فهو لم يستطع بعد أن يقنع الغالبية العظمى من الجماهير بقيمة الفكر المنطقي أو التقدم الحضاري؛ لأنه في جوهره لم يتخلص من بدائيته، وهذه المفارقة تدخل ضمن سلسلة من المفارقات عند ميرال الطحاوي تكشف بها مشكلة الإنسان في علاقته بالمكان وبنفسه مع ما يفرضه المكان من وحدة تحيط بالكائنات كلها لذلك نجد أن العالم الآخر الذي يظن الشرق أنه الجنة الأرضية حافل بأشكال من العنف والفراغ وهدم الحياة مثلما نجد أن افتتاحية الرواية تبدأ بمجموعة من جرائم القتل والانتحار بدلا من نجدها تكرس لحياة ذات قيمة في المجتمع الجديد. تنتهي الرواية بمفارقة أخرى هي غرق السفينة "عين الحياة"، في دلالة تقابل عنوانها الذي يدل على البقاء بينما هي تسير في ظلمات المحيط نحو الموت. وهذه أيضا بنية عكسية إذ تنتهي الرواية بمحاولات متجددة للهجرة التي تحمل البشر من الأجناس كافة، كأن المركب قطعة أخرى من الأرض التي يتنازع عليها البشر في حين تبدأ الرواية بالجيل الثاني من المهاجرين وهم يتخلصون من حياتهم بالرصاص والخناجر، وكأنهم لا يدرون ماذا يفعلون في هذه الأجواء الغريبة عليهم التي لم تستطع أن تقيم بينهم علاقات تحفظ لهم إنسانيتهم، وهذا الاحتفاء بالمفارقة هو البنية التي تنزع بها ميرال الطحاوي الأقنعة الثقافية الصناعية؛ لتؤكد بها كونية الوجود البشري في مقابل الاختلافات الإنسانية غير المبررة.