ربيع براغ بين الهدف والمعنى
الأحد - 26 فبراير 2023
Sun - 26 Feb 2023
بعد بضعة شهور من الزحف السوفيتي عام 1968م والذي أنهى (ربيع براغ) وأنهى معه ما عرف بالحرية الفكرية، انضم الكاتب المسرحي «فاتسلاف هافيل» إلى مجموعة من مواطنيه كانت تقف في طابور أمام السفارة الأمريكية ليحصلوا على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كان كل منهم لديه سبب للهروب، وكان هافيل هو الآخر لديه سبب فقد منعت الحكومة الجديدة الصارمة كل أعماله من أن تمثل أو تطبع، ولكنه كان يختلف عن الآخرين، كان له مكان سيذهب إليه، فثلاث من مسرحياته التي كتبها لقيت تقديرا كبيرا في الغرب وعرضت عليه وظيفة في المسرح العام في نيويورك وكذلك منحة تمكنه من الحياة في الولايات المتحدة لمدة سنة.
ولكن عندما سأله أحد الأصدقاء في الطابور عما إذا كان فعلا ينوى الرحيل أجاب: لا أظن، إذ أنني أعتقد أن الأمور ستكون هنا شيقة للغاية، وفعلا، التشويق هو ما يمكن أن نصف به العشرين سنة التي تلت أحداث ربيع براغ، بل وكانت متقلبة وأحيانا مهينة وأحيانا أخرى مخيفة.
وكواحد من القلة من مفكري براغ الذي اختار ألا يهرب وألا يسكت بل أن يقف في وجه الطغاة، فقد سجن ثلاث مرات تكون في مجموعها خمس سنوات، بتهم تافهة جدا، واحدة لمدة أربعة شهور قضاها في زنزانة طولها 3.5 م وعرضها متران، وكان يشاركه فيها لص من لصوص المنازل، وفترة سجنه الثانية انتهت عندما كاد أن يموت من نزلة شعبية، أهمل علاجها أطباء السجن (وقد يكون ذلك عمدا)، أما آخر مرة سجن فيها فكانت في سنة 1989م لمدة أربعة أشهر كان مفروضا أن تصل إلى ثمانية وذلك لأنه أسهم في حفل وضع الزهور لذكرى طالب أحرق نفسه احتجاجا على الزحف السوفييتي سنة 1968م.
عندما أطلق سراحه وضع تحت المراقبة المستمرة، وتعرض أصدقاؤه الذين كانوا يزورونه للطرد والمطاردة، وسيارته ومسكنه للتخريب، حتى البيت الريفي الذي احتفل فيه بعيد ميلاده الأربعين صدر قرار بإخلائه في اليوم التالي بحجة أنه غير صالح للسكنى الأدمية، وهكذا.
صحيح لم يعذب جسديا ولكنه كان تحت التهديد بذلك، ورغم كل هذا استمر هافيل في الكتابة والنشر واستمر يصور الحزب الشيوعي باعتباره مجموعة (كذابين)، وكانت هذه الصورة مؤثرة جدا في وسط الجماهير. رفض هافيل كل فرصة يحسن بها وضعه المادي والاجتماعي بشرط أن يغير موقفه أو يصمت. عندما آلمه النظام كانت آلامه هي موضوع فنه، وعندما اضطر في فترة من الفترات إلى أن يشتغل برص براميل البيرة الخالية كتب قطعتين أو مقالين ساخرا من هذا الوضع، وبالرغم من أن الأشرار في كتاباته هم الزعماء الشيوعيون، وكان أحيانا يذكرهم بالاسم، فإن الهدف الأبعد هو إدانة زملائه الذين كانت جريمتهم أنهم يسايرون النظام لكي يعيشوا، (يقال ادهن السير يسير).
وكانت شجاعته الأدبية مصحوبة -كما يحدث كثيرا في مثل هذه الحالة- بنوع من العنجهية الشديدة، وكان يقول «إن الأشخاص المثاليين يندر أن تأتي إليهم الفرصة لكي يصبحوا قادة، وعندما يحدث ذلك فمن النادر أن يظهروا مرونه على الأخذ والعطاء أو اختيار التوقيت بعناية مع ضبط الأعصاب». (وهي لب السياسة).
أخيرا، فاقت الأقدار أي شيء كتبه فاتسلاف هافيل للناس، وأصبح القائد المتزن للحركة التي أدت إلى طرد الزعماء الشيوعيين في تشيكوسلوفاكيا بطريقة مهذبة ومنظمة، وقال للناس عندما طالبوه أن يكون رئيسا إن هذا ليس دوره وأنه كاتب، والواقع أن عمله ككاتب مسرحي يعتمد على كونه خارج أي نظام، وكلما رفض المنصب ازداد تشبث مواطنوه به.
حب فاتسلاف هافيل الحقيقي ليس أن يمتلك الأشياء أو تكون في يده سلطة، ولكن الأهم عنده هو أن يعطي الحياة هدفا يجسد معنى، وهذا هو الذي جعل الشعب في تشيكوسلوفاكيا يصر ويقنعه على أن ينتقل من شقته الصغيرة غير المرتبة والعزيزة عليه ليسكن قصر الرئاسة.
hq22222@
ولكن عندما سأله أحد الأصدقاء في الطابور عما إذا كان فعلا ينوى الرحيل أجاب: لا أظن، إذ أنني أعتقد أن الأمور ستكون هنا شيقة للغاية، وفعلا، التشويق هو ما يمكن أن نصف به العشرين سنة التي تلت أحداث ربيع براغ، بل وكانت متقلبة وأحيانا مهينة وأحيانا أخرى مخيفة.
وكواحد من القلة من مفكري براغ الذي اختار ألا يهرب وألا يسكت بل أن يقف في وجه الطغاة، فقد سجن ثلاث مرات تكون في مجموعها خمس سنوات، بتهم تافهة جدا، واحدة لمدة أربعة شهور قضاها في زنزانة طولها 3.5 م وعرضها متران، وكان يشاركه فيها لص من لصوص المنازل، وفترة سجنه الثانية انتهت عندما كاد أن يموت من نزلة شعبية، أهمل علاجها أطباء السجن (وقد يكون ذلك عمدا)، أما آخر مرة سجن فيها فكانت في سنة 1989م لمدة أربعة أشهر كان مفروضا أن تصل إلى ثمانية وذلك لأنه أسهم في حفل وضع الزهور لذكرى طالب أحرق نفسه احتجاجا على الزحف السوفييتي سنة 1968م.
عندما أطلق سراحه وضع تحت المراقبة المستمرة، وتعرض أصدقاؤه الذين كانوا يزورونه للطرد والمطاردة، وسيارته ومسكنه للتخريب، حتى البيت الريفي الذي احتفل فيه بعيد ميلاده الأربعين صدر قرار بإخلائه في اليوم التالي بحجة أنه غير صالح للسكنى الأدمية، وهكذا.
صحيح لم يعذب جسديا ولكنه كان تحت التهديد بذلك، ورغم كل هذا استمر هافيل في الكتابة والنشر واستمر يصور الحزب الشيوعي باعتباره مجموعة (كذابين)، وكانت هذه الصورة مؤثرة جدا في وسط الجماهير. رفض هافيل كل فرصة يحسن بها وضعه المادي والاجتماعي بشرط أن يغير موقفه أو يصمت. عندما آلمه النظام كانت آلامه هي موضوع فنه، وعندما اضطر في فترة من الفترات إلى أن يشتغل برص براميل البيرة الخالية كتب قطعتين أو مقالين ساخرا من هذا الوضع، وبالرغم من أن الأشرار في كتاباته هم الزعماء الشيوعيون، وكان أحيانا يذكرهم بالاسم، فإن الهدف الأبعد هو إدانة زملائه الذين كانت جريمتهم أنهم يسايرون النظام لكي يعيشوا، (يقال ادهن السير يسير).
وكانت شجاعته الأدبية مصحوبة -كما يحدث كثيرا في مثل هذه الحالة- بنوع من العنجهية الشديدة، وكان يقول «إن الأشخاص المثاليين يندر أن تأتي إليهم الفرصة لكي يصبحوا قادة، وعندما يحدث ذلك فمن النادر أن يظهروا مرونه على الأخذ والعطاء أو اختيار التوقيت بعناية مع ضبط الأعصاب». (وهي لب السياسة).
أخيرا، فاقت الأقدار أي شيء كتبه فاتسلاف هافيل للناس، وأصبح القائد المتزن للحركة التي أدت إلى طرد الزعماء الشيوعيين في تشيكوسلوفاكيا بطريقة مهذبة ومنظمة، وقال للناس عندما طالبوه أن يكون رئيسا إن هذا ليس دوره وأنه كاتب، والواقع أن عمله ككاتب مسرحي يعتمد على كونه خارج أي نظام، وكلما رفض المنصب ازداد تشبث مواطنوه به.
حب فاتسلاف هافيل الحقيقي ليس أن يمتلك الأشياء أو تكون في يده سلطة، ولكن الأهم عنده هو أن يعطي الحياة هدفا يجسد معنى، وهذا هو الذي جعل الشعب في تشيكوسلوفاكيا يصر ويقنعه على أن ينتقل من شقته الصغيرة غير المرتبة والعزيزة عليه ليسكن قصر الرئاسة.
hq22222@