عبدالله مشرف المالكي

من أنت؟

الخميس - 23 فبراير 2023

Thu - 23 Feb 2023

يعد سؤال (من أنت؟) من أكبر الأسئلة الوجودية التي يحاول الفلاسفة والمفكرون الإجابة عنها منذ قرون دون أن يصلوا بعد إلى إجابة نموذجية ترضي الجميع.

ومع ذلك، فلن أتعرض هنا للجانب الفلسفي العميق للسؤال، بقدر ما سأشير إلى ظاهرة لاحظتها في عديد من البشر من حولي، اختلفت مستوياتهم الثقافية، والاقتصادية، وتنوعت أماكن وجودهم على الخريطة الجغرافية، لكنهم فهموا السؤال بنفس الطريقة، وأجابوا عنه بنفس الكلمات.

عندما أجاب هؤلاء الأصدقاء والأقارب والزملاء عن سؤال (من أنت؟)، عرّفوا أنفسهم بوظائفهم الحياتية، فمنهم من قال (أنا طبيب)، أو (أنا تاجر)، أو (أنا معلم)، وهكذا، وكأن قيمتهم كبشر تنحصر فيما يقومون به من مهن وحرف يتشابه فيها معهم الملايين.

إذا ربطنا تحقيق الذات بالوظيفة لدرجة أن الأداء الوظيفي يصبح مقياسا لنا نحن كأشخاص، فقد فقدنا البوصلة، وفقدنا حقيقة كوننا بشرا ولسنا آلات أو حواسيب مبرمجة.

ورغم جاذبية بعض المسميات الوظيفية، وتقديرها اجتماعيا وتنصيبها لصاحبها في مكانة مالية أو علمية مرموقة، فإنها تظل – ورغم كل مميزاتها – جزءا منك، فأنت لست الوظيفة، أنت أكبر من الوظيفة ومن الزي ومن اللقب ومن مجموع ذلك كله أيضا.

(من أنت؟) لا تساوي (ماذا تعمل لكسب عيشك؟) فالأولى تسأل عن المهمة الأكبر التي تكرّس حياتك من أجلها، في حين أن الثانية تشير إلى إحدى الوسائل المعينة على أداء تلك المهمة العظيمة.

فإذا أجاب أحدهم على سؤال (من أنت؟) قائلا: أنا أب؛ فهذا له معنى أعمق من أن يرد بمهنته؛ لأن هذه الإجابة تعني أنه يحيا من أجل غرض ومهمة أكبر من مجرد لقبه في بطاقة الأعمال أو الهوية الشخصية.

بالتأكيد هذه ليست الإجابة الوحيدة عن السؤال، وإنما هناك آلاف غيرها، وجميعها لا تقع في فخ التعريف المهني، بل تحقق المعنى الدقيق للسؤال.

إن إجابتك عن هذا السؤال بأمانة لنفسك يسهل عليك ترتيب أولويات الحياة وفقا لفهمك لطبيعة مسؤولياتك، فإذا كنت تعتقد أنك أب في المقام الأول، فلن تسمح للوظيفة أو المهنة مهما كانت مربحة أو جذابة بأن تسرقك من أطفالك، ولن تستجيب لمغريات النجاح على حساب الوقت اللازم لتربية أبنائك، والتعايش معهم، وحضور اللحظات المميزة في حياتهم.

اختيارك إجابة أخرى غير تعريف نفسك بالوظيفة لا يعني أبدا التقليل من مكانة العمل، بقدر ما يشير إلى نظرتك لذاتك، والغاية من وجودك في الحياة، فقيمة الإنسان الفعلية ليست في الوسائل التي يستعين بها على العيش، وإنما في الغايات الكبرى التي يهب نفسه من أجلها.

لا يطلب منك أحد أن تكون المهاتما غاندي، أو الأم تريزا، أو غيرهم ممن نذروا حياتهم لأهداف كبرى، لكن يجب أن تفصل قيمتك الذاتية عن مهنتك، وأن تعيد صياغة أولوياتك من جديد، بعد الإجابة عن سؤال (من أنت؟) بمنظور مختلف.