بين العلا والحجر.. على دراجة
الأحد - 19 فبراير 2023
Sun - 19 Feb 2023
لم أكن أقصد أن أقطع الجزيرة العربية متتبعة طريق قوافلها، بخورها، تجارتها، من الجنوب إلى الشمال على هذه النحو خلال يوم واحد.
من نجران إلى العلا ومدائن صالح أخذني الطريق، الذي كان جوا، فنقلني من جو إلى أجواء كلها تعبق بروائح اللبان والمر الزكية. من عالم الأكاديميا وجمعية نجران للتاريخ والآثار إلى عالم الرياضة والطبيعة، حيث كانت محطتي التالية مع 25 سيدة سعودية لنتشارك في متعة ركوب الدراجات الهوائية في الهواء الطلق وفي طرقات العلا ومدائن صالح خلال ثلاثة أيام أمضيناها ما بين استمتاع بمحافظة العلا سياحيا وبين الاستمتاع بها رياضيا.
كانت أول ذكرياتي مع العلا ومدائن صالح منذ أكثر من عشرين عاما مع رحلتي العلمية للدكتوراه، وحين لم يكن فيها مطار ولا فندق وحيث لم يكن الوصول إليها إلا بالسيارة وقد انقطع طريق السكة الحديد منذ عام 1908، وللمبيت فيها الخيار ما بين أن أستثمر صداقاتي وعلاقاتي من زملائنا العلاويين أو التخييم في الصحراء، ونظرا لأني كنت محظوظة بثلة من زملاء العلا فقد تدبرت السكنى لدى أسرة أمين بلدية العلا السابق مشكورين، لي ولأخي محمد الذي كان برفقتي عام 1999.
الوضع اليوم كان مختلفا، مطار دولي يستقبلك على نغمات عازف البيانو السعودي والقهوة السعودية والتمر العلاوي وجو فبراير الجميل، فضلا عن الصحبة الحلوة للصديقات اللاتي اجتمعن معا في أروقة الطائرة والمطار. وفي استقبالنا كانت كابتن فريق (دراجات الشروق) الدكتورة عواطف القنيبط التي كانت قد أنهت في اليوم السابق ورقتها حول مقارنة الفخار النجراني والجازاني عبر الساتلايت إلى مؤتمر نجران نفسه، وهي في العلا تكمل ترتيبات الرحلة السنوية الوطنية لفريقنا الذي يُتم في مارس عامه الثالث.
قبعة أخرى ارتديتها في العلا أو بالأحرى.. خوذة أخرى.. وانطلقنا لا نلوي بين جبال العلا المهيبة وطرقاتها الممهدة وغير الممهدة.. ولعل اختياري للدراجة الجبلية كانت الأكثر توفيقا أعطتني حرية في التنقل بين جميع أصناف الطرق لاسيما في اليوم الثاني عندما دخلنا إلى منطقة آثار «ددان» وتتبعنا المسارات الداخلية على الدراجات وعن يميننا ترتفع واجهات الجبال والقبور اللحيانية الأسدية والمعينية وتلك المنحوتة في الجبال دون هوية. توفرت لنا فرصة ثمينة أن نتسلق عشرات من الدرجات الموصلة إلى سلسلة من هذه المقابر ونحن في طريقنا إلى معبد الخريبة.
اقتربنا كثيرا ولامسنا الجدران المنحوتة ووصلنا إلى ما نقش عليه باللحيانية وتلك المقابر التي ما زالت مدفونة تحت الرمال. لحيان تلك المملكة التي سيطرت على هذه الواحة بكل سلام واتزان لمدة تقارب الستة قرون من القرن السادس قبل الميلاد أو من ألفين وستمائة عام حيث احتضنوا في محيطهم الجالية المعينية التي قدمت من اليمن لتشرف على تجارتها المشتركة والتي تنتقل من مزارع الجنوب شمالا إلى البتراء/الرقيم ومنها إلى غزة ومن هناك إلى روما وبقية البحر المتوسط، أو شرقا إلى دمشق وغربا إلى مصر.
كانت المسيرة بعد ذلك إلى الحجر.. إلى مدائن صالح.. إلى عاصمة الأنباط الثانية التي ابتنيت بعد أن ضموا إليهم مملكة لحيان في نهاية القرن الأول قبل الميلاد واستبدلوا ددان/العلا بالحجر/حجرا التي أصبحت هي نقطة التقاء قوافل اليمن المتجهة إلى الشام، حيث الحامية العسكرية والمجتمع الذي ازدهر اقتصاديا ودينيا، تشهد على ذلك واجهات مقابرهم، مساكنهم المنقب عنها حديثا، عملتهم المسكوكة بكثافة في الحجر حاملة اسم المدينة عليها، فخارهم الرقيق الذي يحاكي قشرة البيض، قنواتهم المائية، آبارهم المنحوتة والمطوية بالمئات، كتاباتهم المنتشرة على واجهات المقابر والجبال حاملة أسماء ملوكهم وآلهتهم وقوانينهم وعلاقاتهم الاجتماعية لاسيما تلك التي تُظهر المكانة المتميزة لنسائهم وملكاتهم وكاهناتهم.
كان شعوري غامرا وأنا أصلها على دراجتي وأخوض في طرقاتها على عجلاتي متخيلة المدينة في عزها وحركتها وقوافل تجارتها غادية ورائحة ورجالها ونسائها وأطفالها يغدون في كل مكان ينظرون إلينا باستغراب ورغبة في الترحيب وأنا أرد عليهم سلامهم بالنبطية محاولة أن أبدي لهم كم أنا مقدرة لحضارتهم ومهتمة بتفاصيلهم وسعيدة بوصولنا إلى أبواب بيوتهم.
أخذتنا أول المسارات إلى جبل الأحمر الذي طلبت الوصول إليه أولا للاطلاع على مقبرة هينة بنت وهب، إحدى المقابر الثمانية عشرة التي تحف بهذا الجبل الصغير وإحدى المقابر النسائية البالغة 7 من 37 مقبرة مثبتة بنقش. ومقبرة هذه السيدة ذات أهمية خاصة نظرا لأنها واحدة من ثلاث مقابر تم التنقيب فيها من قبل فريق التنقيب السعودي - الفرنسي الذي ينقب في الحجر منذ عشرين عاما (2002-2022)، والتي اختاروها عام 2008 نظرا لأنها كانت مسدودة بكثبان من الرمال إلا من جانب صغير حمى محتوياتها من العبث والحفر الجائر. فنتج عن ذلك الكشف ثمانون هيكلا عظميا، أحد أقدمها وفي أول طبقاتها، ما يعتقد أنه هيكل مالكة المقبرة المسجل اسمها على نقشها، هينة بنت وهب، التي خصصت المقبرة لنفسها وأولادها وذريتهم إلى الأبد، وتمنع أي شخص من أن يبيع أو يرهن أو يتنازل عن المقبرة لأحد، ومن يفعل ذلك فسيخسر حقه الشرعي في المقبرة، ثم تؤرخ النقش بسنة 21 لحكم الملك مالك ملك الأنباط، الموافق 60/61م.
وما زال للقصة بقية.
من نجران إلى العلا ومدائن صالح أخذني الطريق، الذي كان جوا، فنقلني من جو إلى أجواء كلها تعبق بروائح اللبان والمر الزكية. من عالم الأكاديميا وجمعية نجران للتاريخ والآثار إلى عالم الرياضة والطبيعة، حيث كانت محطتي التالية مع 25 سيدة سعودية لنتشارك في متعة ركوب الدراجات الهوائية في الهواء الطلق وفي طرقات العلا ومدائن صالح خلال ثلاثة أيام أمضيناها ما بين استمتاع بمحافظة العلا سياحيا وبين الاستمتاع بها رياضيا.
كانت أول ذكرياتي مع العلا ومدائن صالح منذ أكثر من عشرين عاما مع رحلتي العلمية للدكتوراه، وحين لم يكن فيها مطار ولا فندق وحيث لم يكن الوصول إليها إلا بالسيارة وقد انقطع طريق السكة الحديد منذ عام 1908، وللمبيت فيها الخيار ما بين أن أستثمر صداقاتي وعلاقاتي من زملائنا العلاويين أو التخييم في الصحراء، ونظرا لأني كنت محظوظة بثلة من زملاء العلا فقد تدبرت السكنى لدى أسرة أمين بلدية العلا السابق مشكورين، لي ولأخي محمد الذي كان برفقتي عام 1999.
الوضع اليوم كان مختلفا، مطار دولي يستقبلك على نغمات عازف البيانو السعودي والقهوة السعودية والتمر العلاوي وجو فبراير الجميل، فضلا عن الصحبة الحلوة للصديقات اللاتي اجتمعن معا في أروقة الطائرة والمطار. وفي استقبالنا كانت كابتن فريق (دراجات الشروق) الدكتورة عواطف القنيبط التي كانت قد أنهت في اليوم السابق ورقتها حول مقارنة الفخار النجراني والجازاني عبر الساتلايت إلى مؤتمر نجران نفسه، وهي في العلا تكمل ترتيبات الرحلة السنوية الوطنية لفريقنا الذي يُتم في مارس عامه الثالث.
قبعة أخرى ارتديتها في العلا أو بالأحرى.. خوذة أخرى.. وانطلقنا لا نلوي بين جبال العلا المهيبة وطرقاتها الممهدة وغير الممهدة.. ولعل اختياري للدراجة الجبلية كانت الأكثر توفيقا أعطتني حرية في التنقل بين جميع أصناف الطرق لاسيما في اليوم الثاني عندما دخلنا إلى منطقة آثار «ددان» وتتبعنا المسارات الداخلية على الدراجات وعن يميننا ترتفع واجهات الجبال والقبور اللحيانية الأسدية والمعينية وتلك المنحوتة في الجبال دون هوية. توفرت لنا فرصة ثمينة أن نتسلق عشرات من الدرجات الموصلة إلى سلسلة من هذه المقابر ونحن في طريقنا إلى معبد الخريبة.
اقتربنا كثيرا ولامسنا الجدران المنحوتة ووصلنا إلى ما نقش عليه باللحيانية وتلك المقابر التي ما زالت مدفونة تحت الرمال. لحيان تلك المملكة التي سيطرت على هذه الواحة بكل سلام واتزان لمدة تقارب الستة قرون من القرن السادس قبل الميلاد أو من ألفين وستمائة عام حيث احتضنوا في محيطهم الجالية المعينية التي قدمت من اليمن لتشرف على تجارتها المشتركة والتي تنتقل من مزارع الجنوب شمالا إلى البتراء/الرقيم ومنها إلى غزة ومن هناك إلى روما وبقية البحر المتوسط، أو شرقا إلى دمشق وغربا إلى مصر.
كانت المسيرة بعد ذلك إلى الحجر.. إلى مدائن صالح.. إلى عاصمة الأنباط الثانية التي ابتنيت بعد أن ضموا إليهم مملكة لحيان في نهاية القرن الأول قبل الميلاد واستبدلوا ددان/العلا بالحجر/حجرا التي أصبحت هي نقطة التقاء قوافل اليمن المتجهة إلى الشام، حيث الحامية العسكرية والمجتمع الذي ازدهر اقتصاديا ودينيا، تشهد على ذلك واجهات مقابرهم، مساكنهم المنقب عنها حديثا، عملتهم المسكوكة بكثافة في الحجر حاملة اسم المدينة عليها، فخارهم الرقيق الذي يحاكي قشرة البيض، قنواتهم المائية، آبارهم المنحوتة والمطوية بالمئات، كتاباتهم المنتشرة على واجهات المقابر والجبال حاملة أسماء ملوكهم وآلهتهم وقوانينهم وعلاقاتهم الاجتماعية لاسيما تلك التي تُظهر المكانة المتميزة لنسائهم وملكاتهم وكاهناتهم.
كان شعوري غامرا وأنا أصلها على دراجتي وأخوض في طرقاتها على عجلاتي متخيلة المدينة في عزها وحركتها وقوافل تجارتها غادية ورائحة ورجالها ونسائها وأطفالها يغدون في كل مكان ينظرون إلينا باستغراب ورغبة في الترحيب وأنا أرد عليهم سلامهم بالنبطية محاولة أن أبدي لهم كم أنا مقدرة لحضارتهم ومهتمة بتفاصيلهم وسعيدة بوصولنا إلى أبواب بيوتهم.
أخذتنا أول المسارات إلى جبل الأحمر الذي طلبت الوصول إليه أولا للاطلاع على مقبرة هينة بنت وهب، إحدى المقابر الثمانية عشرة التي تحف بهذا الجبل الصغير وإحدى المقابر النسائية البالغة 7 من 37 مقبرة مثبتة بنقش. ومقبرة هذه السيدة ذات أهمية خاصة نظرا لأنها واحدة من ثلاث مقابر تم التنقيب فيها من قبل فريق التنقيب السعودي - الفرنسي الذي ينقب في الحجر منذ عشرين عاما (2002-2022)، والتي اختاروها عام 2008 نظرا لأنها كانت مسدودة بكثبان من الرمال إلا من جانب صغير حمى محتوياتها من العبث والحفر الجائر. فنتج عن ذلك الكشف ثمانون هيكلا عظميا، أحد أقدمها وفي أول طبقاتها، ما يعتقد أنه هيكل مالكة المقبرة المسجل اسمها على نقشها، هينة بنت وهب، التي خصصت المقبرة لنفسها وأولادها وذريتهم إلى الأبد، وتمنع أي شخص من أن يبيع أو يرهن أو يتنازل عن المقبرة لأحد، ومن يفعل ذلك فسيخسر حقه الشرعي في المقبرة، ثم تؤرخ النقش بسنة 21 لحكم الملك مالك ملك الأنباط، الموافق 60/61م.
وما زال للقصة بقية.