حامد بن سليمان العيسى

مبادئ وأحكام المحكمة العليا بين الإلزامية والاستئناس

الاحد - 19 فبراير 2023

Sun - 19 Feb 2023

تتباين المدارس القانونية في اعتمادها على السوابق القضائية، فمنها ما ينظر للسوابق كمصدر استرشادي إما لبناء تشريعاتها أو لتفسيرها، وهي ما تُسمى بمدرسة القانون اللاتيني أو المدني (Civil Law) والتي تُعد فرنسا أبرز أمثلتها ومن اتبعها من غالبية الدول العربية.

أما المدرسة الأخرى فتعتمد على السوابق القضائية كمصدر أساسي وملزم، وبعبارة أخرى فإن ما تصدره المحاكم الأعلى درجة هو قانون واجب التطبيق، ومن أبرز الدول التي تتبع هذه المدرسة إنجلترا ومن تأثر بها كأمريكا، وتُسمى هذه المدرسة بمدرسة القانون العام (Common Law) أو المدرسة الأنجلوسكسونية، والتي نشأت قديما في بريطانيا.

وبعيدا عن الفروقات والمقارنات بين هاتين المدرستين؛ إذ لكل منهما محاسن ومساوئ وبصرف النظر عن موقع النظام السعودي من هاتين المدرستين، فإننا سنسلط الضوء في هذه المقالة على موقع ما يصدر عن المحكمة العُليا - من أحكام ومبادئ - في المملكة العربية السعودية تحت مظلة القضاء العام (أي المحاكم الخاضعة لولاية القضاء العام وهي المحكمة العليا ومحاكم الاستئناف والمحاكم العامة والتجارية والجزائية والعمالية والأحوال الشخصية والتنفيذ)، دون الدخول فيما يصدر عن المحكمة الإدارية العليا بوصفها ولاية قضائية مُستقلة -قد نتطرق إليها في مقال لاحق- ونجيب عما إذا كان ما يصدر عن المحكمة العليا في القضاء العام ملزما لما دونها من المحاكم.

للإجابة على ذلك يلزم علينا ابتداء بيان ما يصدر عن المحكمة العليا؛ فهي - بوجه عام - تصدر أحكاما قضائية في دعاوى تنظرها إحدى دوائرها بحسب اختصاصاتها المقررة نظاما إما بوصفها محكمة نظام (قانون) - وهو الأصل - أو محكمة موضوع - تتصدى للنزاع - وما يصدر عنها بهذين الوصفين يسمى (الأحكام القضائية).

وكذلك يصدر عن المحكمة العليا - بوجه خاص - مبادئ قضائية والتي عرفتها المحكمة نفسها بقرارها رقم (2/أ) وتاريخ 29-8-1434هـ بأنها «القاعدة القضائية العامة الموضوعية والإجرائية التي تقررها المحكمة العليا وتُراعى عند النظر في القضايا وإصدار الأحكام والقرارات».

وهذه المبادئ تؤسس على أكثر من منهاج، بيانها الآتي:

1 - مبادئ قضائية عامة وتحديدا من الهيئة العامة للمحكمة العليا (وهي هيئة تشكل من رئيس المحكمة وعضوية جميع قضاتها) وذلك وفقا لاختصاصات الهيئة الواردة في المادة (13) من نظام القضاء، والتي -من الناحية العملية- قد تصدرها الهيئة من تلقاء نفسها أو بناء على توجيه من المقام الكريم أو طلب من المجلس الأعلى للقضاء، ولا تكون بالضرورة متصلة بنزاع معين.

2 - مبادئ قضائية تأخذ بها إحدى دوائر المحكمة العليا عند نظرها نزاعا معينا وفق ما دلت عليه المادة (14) من نظام القضاء.

3 - مبادئ قضائية مقررة من الهيئة العامة للمحكمة العليا وذلك في حالة العدول عن مبدأ سبق أن أخذ به وفق الحالة سالفة الذكر بحسب التفصيل الوارد في المادة (14) من نظام القضاء.

بعد بياننا لما يصدر عن المحكمة العليا (أي المبادئ أو الأحكام)، فإننا نجيب على السؤال الأساسي بأن ما يصدر عن المحكمة العليا من حيث الأصل غير ملزم - بخلاف القضية محل النظر أو ما يسمى قضايا الأعيان - وذلك لأن المحاكم غير ملزمة إلا بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وفق ما دل عليه الكتاب والسنة وما يصدره ولي الأمر من أنظمة وفقا لما نصت عليه المادة (48) من النظام الأساسي للحكم وما يُفهم من المادتين (1) و(11) من نظام القضاء، وما قرره الفقهاء من أن «الاجتهاد لا ينقض بمثله»؛ وبناء على ذلك يمكننا القول إن الأحكام والمبادئ القضائية الصادرة عن المحكمة العليا غير ملزمة إذ إننا لم نجد نصا يقرر إلزاميتها.

ومع ذلك ورغم أن الأصل أن نظام القضاء والذي تناول - بشكل مختصر - آلية إصدار المبادئ لم يقض بإلزاميتها بوجه عام، إلا أن ما يصدر عن المحكمة العليا ويتضمن في طياته ما يجسد معنى المبدأ القضائي -بحسب ما جرى بسطه أعلاه- ملزما في الدعاوى التجارية ومرد ذلك لنص خاص بها ورد ذكره في المادة (88/أ) من نظام المحاكم التجارية قرر أن الحكم المخالف لمبدأ من المحكمة العليا موجبا للنقض؛ وهو ما يفهم من هذه المادة إلزامية مبادئ المحكمة العليا بشأن الدعاوى التجارية.

وما يؤكد هذا الفهم أن إفراد المنظم لنص خاص يقضي بإلزامية مبادئ المحكمة العليا في الدعاوى التجارية دون سواها يفهم منه - بمفهوم المخالفة - أن ما يتعلق بما سواها لا يعني معه أن المبادئ القضائية ملزمة، ومثال ذلك ما يتعلق بالدعاوى الجزائية والمدنية (العامة) والعمالية وغيرها، فمبادئ المحكمة العليا غير ملزمة فيها إعمالا لنص نظامي، وما يزيد ذلك تأكيدا أنه عند النظر في تعريف المبدأ القضائي بحسب قرار المحكمة العليا نفسها رقم (2/أ) لعام 1434هـ نجده لم يقرر إلزامية المبدأ وقد نص على أن المبدأ قاعدة عامة «تراعى عند النظر في القضايا..» ولفظ «تُراعى» لا يقتضي الإلزامية.

ورغم عدم إلزامية مبادئ المحكمة العليا بوجه عام على كافة القضايا تطبيقا لنص، فإن واقع ما جرى به العمل يحتم اتباعها ولها حظوة أدبية نظرا إلى عمق المعرفة والخبرة الشرعية والنظامية لقضاة المحكمة العليا، وقلما تجد مخالفة لما يصدرونه من مبادئ، وتأخذ هذه المبادئ قدرا عاليا من الاحترام والاتباع من كافة المحاكم لعدة اعتبارات، منها أن الحكم المخالف لها قد يكون معرضا بدرجة عالية للنقض إذ إنه قد يعرض أمام المحكمة نفسها مصدرة هذه المبادئ والتي قد تحكم بإلغاء الحكم لمخالفته توجهاتها ومبادئها، كما أن المنظومة القضائية في المملكة تتبع منهج استقرار الاجتهاد والأحكام وذلك باتباع قول واحد في مسألة معينة وهو ما يسمى بـ(ما جرى به العمل قضاء) و(المستقر عليه) وقد سماه المالكية فقها بـ(الماجريات) وهو ما تتشوف له الشريعة الإسلامية، وفي ذلك قررت الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى - سابقا - أن «البحث عما يخالف ما عليه القضاة، مما هو مقتضى قواعد الشريعة، وبه صرح العلماء في كتبهم، غير سائغ». (القرار رقم 393 لعام 1396هـ) وقد قررت كذلك أن «كل قضية تُحال إلى القضاء ينبغي ألا تخرج عن طريق مثيلاتها؛ ضمانا لتوفير العدل واحتياطا للدماء حاضرا ومستقبلا، وبراءة للذمة.» (القرار رقم 136/2 لعام 1407هـ) وقال في ذلك قاضي محكمة التمييز وعضو هيئة كبار العلماء -سابقا- معالي الشيخ بن خنين «ما جرى به العمل مقدما على اجتهاد القاضي وترجيحه» (تمييز الأحكام القضائية، ص 166) ولا شك أن مخالفة مبادئ المحكمة العليا مدعاة لاختلاف الآراء والتوجهات واضطراب للأحكام.

ومختصر القول أن كافة أحكام ومبادئ المحكمة العليا في القضاء العام غير ملزمة استنادا لنص نظامي معين – بخلاف القضية محل النظر – وما يتعلق بالمبادئ الصادرة عن المحكمة العليا في القضاء العام فإنها ملزمة في الدعاوى التجارية فقط دون سواها.

ختاما، وبعد أن مارست المحكمة العليا اختصاصاتها، وقد صدر عنها العديد من المبادئ والتي – بفضل الله – قد أثبتت فاعليتها ويسرت ورفعت الحرج في مسائل شتى، يجدر بنا الإشارة إلى أن وزارة العدل - مشكورة - في السنتين الماضيتين تنشر بشكل دوري كافة الأحكام الصادرة عن الدوائر التجارية في المحكمة العليا، وقد نشرت مسبقا بعضا من مبادئ المحكمة العليا وذلك تماشيا مع اختصاص الوزارة المنصوص عليه في المادة (71) من نظام القضاء، وآملين من وزارة العدل أن تستكمل هذا الجهد المبارك وذلك بتبويب ونشر كافة الأحكام والمبادئ الصادرة عن المحكمة العليا في القضاء العام - بما في ذلك غير التجارية - مع إفراد المبادئ وما يرتبط بها من أحكام حال الارتباط.

@aleisaHamed