علي قطب

ازدواجية العلامة في ديوان القاهرة لهدى عمران

الثلاثاء - 14 فبراير 2023

Tue - 14 Feb 2023

ينطلق ديوان القاهرة لهدى عمران من تورية يستقبل القارئ معناها الأول بوصفه إشارة إلى المدينة الكبيرة التي تعيش فيها الأديبة ويعبر عنها الديوان ويظل هذا المعنى في أفق التلقي حتى بعد أن يقرأ القصيدة التي تحمل عنوان القاهرة، وبعد أن يغلق الديوان وتسري أصداء القصائد في ذهنه يجد أن كلمة القاهرة لم تكن دالة على المدينة فقط، فهذا أمر طبيعي أن يدل كل عمل على المكان الذي ينتمي إليه مبدعه ويعيش فيه أجواء يومه بأسلوبه أو بالأسلوب الذي يفرضه عليه المكان، هنا نجد المعنى الثاني قد بدأ ينمو وهو أن القاهرة التي يمكن أن نستشف معناها من العنوان بعد قراءة القصائد ليست المدينة بقدر ما هي أسلوب حياة تواجهه المرأة بشكل عام وتعبر عنه الشاعرة التي تشعر بأزمة وجودية نتيجة تعاملها اليومي مع العالم، هذه الأزمة بدأت ربما قبل أن تولد حين اتخذت اسما يخص شخصية أخرى وهي أخت سابقة، ويغرس فيها الأب مخاوفه فيطلب منها أن تواجه الدنيا بشراسة، بالتالي يحدث قهر للأنثى في داخلها وهي تتلقى ثقافة ذكورية تصنع لها طريقة حياتها.

وبالطبع لا نقصد شخصية الشاعرة الفعلية في الواقع الخارجي إنما تتجه مقصدية الكلام إلى الشخصية الإبداعية الموجودة داخل الديوان، وهذا فرق يجب أن يكون واضحا في تجارب التلقي حتى لا يحدث تطابق في ذهن القارئ بين شخصية المبدع والصوت الناطق في العالم الإبداعي، أو النموذج المرسوم من قبل الراوي أيا كان الشكل الأدبي، شعرا كان أم سردا، فكل عمل قولي لا بد أن يكون له الصوت الذي تتشكل منه علاماته وصوره وأفكاره، وكثيرا ما يكون ضمير المتكلم خادعا وعلامة يمكن أن تدل على شخصية تجريدية افتراضية، والمشكلة في أن المتلقي لديه خبرات ثقافية قديمة أن الشاعر يتحدث عن نفسه، كما أن لديه رغبة في أن تكون المرأة هي صاحبة ضمير المتكلم، وهذا وهم لكنه ما زال قائما في سياق استقبال الأدب.

تتحدث هدى عمران بضمير المتكلم، ويستطيع القارئ أن ينتقل منه إلى النموذج التجريدي لشخصية افتراضية يمكن أن تنطبق على كثير من الشخصيات الواقعية بدرجة من المجاز، أو بتحرير المعنى من المباشرة.

تقول الشاعرة في ديوان القاهرة "لي أخت ميتة، تذكرتها بالأمس.. رأيت صور الأطفال الموتى بعيونهم اللامعة على حجور أمهاتهم المتخفيات.. بدا الطفل لي في الصورة كشبح ممتلئ بالحقد على هذا العالم.. وكأنه روح ناقمة ستهيم على وجهها حتى تولد من جديد"

في هذا المقطع تستحضر الشاعرة صورة اجتماعية توجد كثيرا في تجاربنا الأسرية، والقصيدة بعنوان العائلة، ولكنها تخرج من هذه المرجعية بشعور خاص بصدد الموت الذي يصيب الأطفال، يمكن أن ننتقل من هذا الموت الحقيقي إلى نوع من الموت المجازي بمعنى أن الطفولة مغدورة أو مظلومة، وحينما يكبر هؤلاء الأطفال الذين لم يعيشوا حياتهم الأولى كما يحلو لهم يكون شعورهم تجاه العالم عدائيا، وتواصل هدى تفريع العنصر التصويري لتتخذ منه جذرا للشخصية الراوية فتقول هذه الشخصية "كنت صدى ممتدا لهذه البنت الميتة، أخذت اسمها وترتيبها بين أبناء العائلة، أخذت حتى حياتها القادمة بأكملها، أتساءل كيف هو شكلها الآن؟ جثتها الناعمة تطفو على وجه العالم، أم إن روحها لا تزال هائمة، تبحث عن مكان ما، هل حان الوقت لتقتلني كما قتلتها؟".

يصبح السلوك المجتمعي نمطا للحياة، فالطفلة الراحلة يظل اسمها حاضرا في الطفلة الجديدة بمعنى أن العائلة تفترض نموذجا مسبقا للطفلة، سينمو هذا النموذج طبقا لتصورات الأسرة بصرف النظر عن هويته الخاصة، من هذا المنطلق تفقد الشخصية وجودها الحقيقي فتصبح هي المفقودة بالفعل، أو يحدث لها الوأد الشعوري، ولأن لكل فعل رد فعل فإن تلك الشخصية التي طواها المجتمع في النسيان ستظهر مرة أخرى لتتجاوز النمط الذي أنجزه المجتمع.

ويستمر الصراع بين الذات التي تريد أن تبدع نفسها والنموذج الذي قهرها المجتمع في إطاره، فتقول هدى عمران في قصيدة امرأة أخرى "كانت هي الحياة وكنت أنا الدموع والضآلة، كنت أراها وهي تعبرني بغرور كأنها اللحظة الضائعة بين الغفوة والنوم كالمرأة المذهلة في قاربها الصغير إنها تنظر لآثار الرمال على الشاطئ كحلم صاخب أحمر وكنت لا مرئية وحزينة كعظام هشة".

فالصورة الثنائية للذات المطاردة بأخرى تفرض نفسها في الديوان، ونتيجة لذلك يتحول العنوان من الدلالة على مدينة إلى الدلالة على أسلوب ثقافة تواجهه الذات فتنقسم على نفسها مما يجعل القضية الأساسية في الديوان هي قضية إبداع الحياة في سياق يفتقر إلى رؤية الابتكار، وهذا يؤدي إلى تكرار تشبيه السمكة في الديوان بالإضافة لوجودها مبتورة على الغلاف، فالمعنى الذي تدور حوله القصائد لا يتوجه إلى مفهوم ذيل السمكة أي قاع المدينة فقط، إنما يشير إلى أن السمكة تنام وعيونها مفتوحة، فكأن البشر في سياق الشاعرة أصحاب عيون مفتوحة ولكنهم يفتقدون إلى الرؤية أو كمن يسير نائما.