عاشت المؤشرات.. ومات المريض!
الاثنين - 13 فبراير 2023
Mon - 13 Feb 2023
وصلت سيارة الإسعاف إلى قسم الطوارئ في وقت قياسي، هرع المسعفون إلى حمل المريض وإدخاله غرفة العناية المركزة، باشر المختصون عملهم، ولأن نسبة نجاح إجراء عملية جراحية للمريض ليست عالية، قرروا عوضا عن ذلك حقنه ببعض المسكنات والمنعشات لرفع مستوى المؤشرات الحيوية، مع المحافظة على مستوى أداء العمليات الناجحة، وماهي إلا سويعات حتى مات المريض!
تلك قصة افتراضية من نسج الخيال، إلا أن انعكاساتها متغلغلة في كثير المنظمات التي تلهث وراء مؤشرات الأداء الرنانة؛ دون أن تحقق النتائج المطلوبة التي من أجلها وجدت تلك المنظمات.
خلصت دراسة بحثية أجرتها (Advanced Performance Institute and Actuate)، اشتملت على أكثر من 3 آلاف منظمة، أن 90% من قياسات الأداء مهدرة ولا يتم الاستفادة منها في بناء التوصيات التطويرية أو اتخاذ القرارات الاستراتيجية، في حين أنها تستهلك الكثير من الموارد البشرية والمادية لتوثيقها وجمعها وتحليلها وكتابة التقارير التفصيلية عنها.
يحكى أن إحدى الحكومات قررت تبني مؤشرا يهدف إلى قياس أداء مصانع المسامير وتحفيزهم لإنتاج المزيد منها دعما للاقتصاد المحلي، وكان المؤشر هو مقدار وزن الإنتاج اليومي لكل مصنع، فكانت النتيجة أن أنتجت بعض المصانع كميات قليلة من المسامير الثقيلة.
حينها عُدل المؤشر ليكون عدد المسامير المنتجة بدلا من وزنها، فعمدت بعض المصانع إلى إنتاج كميات كبيرة من المسامير الصغيرة فقط! هذه المصانع حققت أداء عاليا، وفقا لهذه المؤشرات؛ إلا أنها في الواقع لم تحقق النتائج المطلوبة منها!
مثال آخر، كثير من المنظمات اليوم تتبنى مؤشرا لقياس خدمة العملاء يعنى بمقدار زمن الاستجابة للعميل، فحين ترفع تذكرة تطلب خدمة أو ترسل استفسارا أو شكوى، ربما تأتي الإجابة سريعا: «نود إحاطتكم بمعالجة طلبكم وإغلاق التذكرة»، في حين أنك لا تعلم ما الذي تم بالفعل، بل وربما حين تتواصل معهم مستفسرا، تأتي الإجابة: «حُوّل طلبك إلى الجهة المعنية للنظر فيه»!
قام أكثر من 5 آلاف موظف في بنك (Wells Fargo)، والذي يعد رابع أكبر بنك في الولايات المتحدة الأمريكية، بفتح نحو مليون ونصف حساب وهمي، وطلب الحصول على أكثر من نصف مليون بطاقة ائتمانية من دون الحصول على إذن أو موافقة من قبل أصحابها؛ لتحقيق المستهدفات المطلوبة منهم، مما كلف البنك دفع غرامات مالية بقيمة 185 مليون دولار أمريكي.
وقد ذكر لي مرة موظف في إحدى البنوك المحلية أن الباعث الرئيس لأدائه يتمحور حول عدد العملاء المستفيدين من خدمة القروض المالية، ولذا حين يحقق المستهدف منه قبل نهاية السنة، يتعمد أحيانا تأخير إنهاء إجراءات الاقتراض للعملاء الجدد؛ بهدف أن تحسب هذه الإنجازات من مؤشرات أداء السنة القادمة!
زرت إحدى المؤسسات التعليمية للاستفادة من تجربتهم والاطلاع على إنجازاتهم، وقد سررت بحماسهم الظاهر في عرضهم؛ لقد حققوا نتائج مرتفعة في عدد المستفيدين والبرامج المنفذة والمشاريع المنجزة، إلا أن الحديث عن مستوى أداء الطلبة والمبادرات المعنية بتعزيزه غائبة عن المشهد!
هكذا يكون الحال عندما تتمحور المنظمة حول بعض مؤشرات الأداء، وتجعل منها أهدافا تتبناها، فتعظّم من أهميتها، وتضع حمل نجاحها أو فشلها على عاتق العاملين لديها، فيسعون إلى تحقيقها بأي طريقة كانت، وإلا كان اللوم والعقاب لهم بالمرصاد!
لا شك أن مؤشرات الأداء (KPIs) مهمة وفاعلة لأي منظمة، لكن يجب أن نضعها في موضعها، ونعطيها قدرها حتى تؤتي ثمارها، فهي مؤشرات وجدت لتقيس مستوى التقدم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية. ولذا من المهم عند تحديد المؤشرات مراعاة ما يلي:
وحين علمت الحكومة البريطانية بذلك، قررت إلغاء المكافأة، فقام المواطنون بإطلاق سراحها إلى شوارع المدينة؛ مما أدى إلى تفاقم المشكلة بدلا من حلها!
مما سبق ندرك أن مؤشرات الأداء ليست أهدافا لذاتها، وحتى نضمن الاستفادة منها في تحقيق الأهداف الاستراتيجية، لابد من ربطها بأهداف ومخرجات رئيسية ومرحلية (OKRs)، مع وجود خطة واضحة لتحقيق تلك الأهداف والمخرجات؛ بهدف سد الفجوة بين واقع المنظمة ورؤيتها. ومن أوائل من أشار إلى هذه المنهجية وتبناها في منظمته هو أندرو جروف، مؤسس شركة إنتل، وتبعه بعد ذلك مئات المنظمات والشركات الرائدة، مثل قوقل ومايكرسوفت وجنرال إلكتريك وأمازون وغيرها.
ولتوضيح الربط بينهما بشكل مبسط، لنتخيل أن رؤيتك الحالية هي السفر إلى مكة المكرمة، ولتحقيقها قمت بوضع خطة للوصل إليها مستعينا بسيارتك، فمؤشرات الأداء هي غالبا ما تراه أمامك خلف المقود، مثل كمية الوقود ودرجة الحرارة ومقدار السرعة، فهي تشخص لك أداء عمل السيارة وحالتها الراهنة، ولذا من الضروري متابعتها بشكل مستمر والمحافظة على مستوى أدائها. أما الأهداف والمخرجات المرحلية يمكن أن تكون الوصول إلى مدن متفرقة على الطريق الذي سلكته، وكل مدينة تمثل هدفا مرحليا يتوقع منك تحقيقه في وقت محدد؛ وإلا كان ذلك منذرا لك بوجود خلل في رحلتك.
إن نجاح المنظمة مرهونا بتحقيقها لأهدافها الاستراتيجية، ووصولها إلى رؤيتها الطموحة، ولذا من المهم أن تتبنى مؤشرات حقيقية تعكس أداء المبادرات الاستراتيجية والأعمال الرئيسة، مقرونة بمستهدفات ومخرجات مرحلية، وتعطي كل عمل ونشاط قدره وحقه وفقا للمهام والأولويات، وتتجنب المشتتات، وتزرع في نفوس موظفيها مبدأ الإحسان وأخلاقيات العمل، وأن يعملوا كالجسد الواحد في تحقيق المستهدفات وتجاوز التحديات.
تلك قصة افتراضية من نسج الخيال، إلا أن انعكاساتها متغلغلة في كثير المنظمات التي تلهث وراء مؤشرات الأداء الرنانة؛ دون أن تحقق النتائج المطلوبة التي من أجلها وجدت تلك المنظمات.
خلصت دراسة بحثية أجرتها (Advanced Performance Institute and Actuate)، اشتملت على أكثر من 3 آلاف منظمة، أن 90% من قياسات الأداء مهدرة ولا يتم الاستفادة منها في بناء التوصيات التطويرية أو اتخاذ القرارات الاستراتيجية، في حين أنها تستهلك الكثير من الموارد البشرية والمادية لتوثيقها وجمعها وتحليلها وكتابة التقارير التفصيلية عنها.
يحكى أن إحدى الحكومات قررت تبني مؤشرا يهدف إلى قياس أداء مصانع المسامير وتحفيزهم لإنتاج المزيد منها دعما للاقتصاد المحلي، وكان المؤشر هو مقدار وزن الإنتاج اليومي لكل مصنع، فكانت النتيجة أن أنتجت بعض المصانع كميات قليلة من المسامير الثقيلة.
حينها عُدل المؤشر ليكون عدد المسامير المنتجة بدلا من وزنها، فعمدت بعض المصانع إلى إنتاج كميات كبيرة من المسامير الصغيرة فقط! هذه المصانع حققت أداء عاليا، وفقا لهذه المؤشرات؛ إلا أنها في الواقع لم تحقق النتائج المطلوبة منها!
مثال آخر، كثير من المنظمات اليوم تتبنى مؤشرا لقياس خدمة العملاء يعنى بمقدار زمن الاستجابة للعميل، فحين ترفع تذكرة تطلب خدمة أو ترسل استفسارا أو شكوى، ربما تأتي الإجابة سريعا: «نود إحاطتكم بمعالجة طلبكم وإغلاق التذكرة»، في حين أنك لا تعلم ما الذي تم بالفعل، بل وربما حين تتواصل معهم مستفسرا، تأتي الإجابة: «حُوّل طلبك إلى الجهة المعنية للنظر فيه»!
قام أكثر من 5 آلاف موظف في بنك (Wells Fargo)، والذي يعد رابع أكبر بنك في الولايات المتحدة الأمريكية، بفتح نحو مليون ونصف حساب وهمي، وطلب الحصول على أكثر من نصف مليون بطاقة ائتمانية من دون الحصول على إذن أو موافقة من قبل أصحابها؛ لتحقيق المستهدفات المطلوبة منهم، مما كلف البنك دفع غرامات مالية بقيمة 185 مليون دولار أمريكي.
وقد ذكر لي مرة موظف في إحدى البنوك المحلية أن الباعث الرئيس لأدائه يتمحور حول عدد العملاء المستفيدين من خدمة القروض المالية، ولذا حين يحقق المستهدف منه قبل نهاية السنة، يتعمد أحيانا تأخير إنهاء إجراءات الاقتراض للعملاء الجدد؛ بهدف أن تحسب هذه الإنجازات من مؤشرات أداء السنة القادمة!
زرت إحدى المؤسسات التعليمية للاستفادة من تجربتهم والاطلاع على إنجازاتهم، وقد سررت بحماسهم الظاهر في عرضهم؛ لقد حققوا نتائج مرتفعة في عدد المستفيدين والبرامج المنفذة والمشاريع المنجزة، إلا أن الحديث عن مستوى أداء الطلبة والمبادرات المعنية بتعزيزه غائبة عن المشهد!
هكذا يكون الحال عندما تتمحور المنظمة حول بعض مؤشرات الأداء، وتجعل منها أهدافا تتبناها، فتعظّم من أهميتها، وتضع حمل نجاحها أو فشلها على عاتق العاملين لديها، فيسعون إلى تحقيقها بأي طريقة كانت، وإلا كان اللوم والعقاب لهم بالمرصاد!
لا شك أن مؤشرات الأداء (KPIs) مهمة وفاعلة لأي منظمة، لكن يجب أن نضعها في موضعها، ونعطيها قدرها حتى تؤتي ثمارها، فهي مؤشرات وجدت لتقيس مستوى التقدم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية. ولذا من المهم عند تحديد المؤشرات مراعاة ما يلي:
- أولا: هي مؤشرات رئيسة لتشخيص واقع أداء المنظمة، فينبغي اختيارها بعناية وفق معايير واضحة، وفي ذات الوقت محدودة العدد، حتى لا تستنزف الموارد في قياس كل شاردة وواردة لا تقدم نفعا حقيقيا للمنظمة في تحقيق أهدافها.
- ثانيا: لكل مؤشر رئيس ارتباط واضح وجلي بأهداف المنظمة الاستراتيجية، والعكس كذلك، تحقيقا للشمولية والتوازن، ولذا من البدهي ألا تستورد المؤشرات وتطبق كما هي، بل ينبغي أن تعد خصيصا للمنظمة بمشاركة قياداتها لتمحيصها وتبنيها.
- ثالثا: هي مجموعة مؤشرات، كل مؤشر يقيس أداء محددا، ارتفاعه أو انخفاضه لا يعني بالضرورة نجاح المنظمة أو فشلها إجمالا، وإنما عملها الرئيس هو قياس أداء المنظمة في مجموعها نحو تحقيق أهدافها.
- رابعا: حتى تؤتي المؤشرات ثمارها، لا بد من تغذيتها بدقة استنادا على بيانات ومعطيات ذات موثوقية عالية تعكس واقع أداء المنظمة، مع متابعتها وتحليلها لتسليط الضوء على أولويات المرحلة لتخطي التحديات أو تجويد المخرجات.
- خامسا: هي مؤشرات لقياس الأداء وليست أهدافا، لأنها إن تحولت إلى أهداف، فغالبا ما يسعى المسؤولون عنها إلى التحيز في اختيارها، أو تلميعها بإظهار الحسن منها، هروبا من اللوم والإخفاق، وهو ما أشار إليه الاقتصادي البريطاني جودهارت في قانونه «عندما يصبح المقياس هدفا، فإنه يتوقف عن كونه مقياسا جيدا».
- سادسا: التنبه من خطورة ربط المؤشرات بالحوافز، فقد ينشأ منها نتائج عكسية، وهو ما أسماه الاقتصادي الألماني هورست سيبرت «تأثير الكوبرا»، إشارة إلى المعالجة الخاطئة لمشكلة انتشار الكوبرا السامة في الهند إبان الحكم البريطاني، إذ قررت الحكومة حينها منح مكافأة لكل من يأتي بثعبان الكوبرا ميتة، عندها تسارع المواطنون للبحث عنها وقتلها للحصول على المكافآت المالية، وبعد مرور الوقت، عمد بعض المواطنين إلى احتواء الكوبرا وتربيتها بهدف الحصول على المزيد منها لتكون دخلا ماليا مستمرا.
وحين علمت الحكومة البريطانية بذلك، قررت إلغاء المكافأة، فقام المواطنون بإطلاق سراحها إلى شوارع المدينة؛ مما أدى إلى تفاقم المشكلة بدلا من حلها!
مما سبق ندرك أن مؤشرات الأداء ليست أهدافا لذاتها، وحتى نضمن الاستفادة منها في تحقيق الأهداف الاستراتيجية، لابد من ربطها بأهداف ومخرجات رئيسية ومرحلية (OKRs)، مع وجود خطة واضحة لتحقيق تلك الأهداف والمخرجات؛ بهدف سد الفجوة بين واقع المنظمة ورؤيتها. ومن أوائل من أشار إلى هذه المنهجية وتبناها في منظمته هو أندرو جروف، مؤسس شركة إنتل، وتبعه بعد ذلك مئات المنظمات والشركات الرائدة، مثل قوقل ومايكرسوفت وجنرال إلكتريك وأمازون وغيرها.
ولتوضيح الربط بينهما بشكل مبسط، لنتخيل أن رؤيتك الحالية هي السفر إلى مكة المكرمة، ولتحقيقها قمت بوضع خطة للوصل إليها مستعينا بسيارتك، فمؤشرات الأداء هي غالبا ما تراه أمامك خلف المقود، مثل كمية الوقود ودرجة الحرارة ومقدار السرعة، فهي تشخص لك أداء عمل السيارة وحالتها الراهنة، ولذا من الضروري متابعتها بشكل مستمر والمحافظة على مستوى أدائها. أما الأهداف والمخرجات المرحلية يمكن أن تكون الوصول إلى مدن متفرقة على الطريق الذي سلكته، وكل مدينة تمثل هدفا مرحليا يتوقع منك تحقيقه في وقت محدد؛ وإلا كان ذلك منذرا لك بوجود خلل في رحلتك.
إن نجاح المنظمة مرهونا بتحقيقها لأهدافها الاستراتيجية، ووصولها إلى رؤيتها الطموحة، ولذا من المهم أن تتبنى مؤشرات حقيقية تعكس أداء المبادرات الاستراتيجية والأعمال الرئيسة، مقرونة بمستهدفات ومخرجات مرحلية، وتعطي كل عمل ونشاط قدره وحقه وفقا للمهام والأولويات، وتتجنب المشتتات، وتزرع في نفوس موظفيها مبدأ الإحسان وأخلاقيات العمل، وأن يعملوا كالجسد الواحد في تحقيق المستهدفات وتجاوز التحديات.