علي المطوع

«أشهد أنه فارق الصف رجال»

الاحد - 12 فبراير 2023

Sun - 12 Feb 2023

يستعد المدير الهمام للخروج من المنعطف الأخير للوظيفة، بعد تلقيه خطاب قرار تقاعده الذي للتو وصله، والذي كان يعرف موعده وساعة حدوثه، ولكنه كان دائما ما يتجاهله ويسوف كثيرا في انتظاره والتعاطي معه كنهاية حتمية تختم مشوار ركضه الطويل في الوظيفة ودهاليزها.

هذا المدير عاش حالة من النجومية غير مسبوقة، فذكاؤه الاجتماعي خوله أن يصبح كنجم شباك سينمائي أمام معارفه وأقاربه وعشيرته الأقربين، فهو بمقاييس الحالة المجتمعية البسيطة؛ (ونعم)، كونه يتجاوز النظام ويقصي أهل الحقوق عن حقوقهم في سبيل تسهيل إجراء غير نظامي ليستفيد منه شخص محسوب عليه.

يخرج هذا المدير من الوظيفة، وقد أغرق كثيرين بتجاوزاته أو ما يعرّفه المتجاوزون والمجايلون له بالجميل، والذي تعلنه وتنشره كتائب أتباعه، الذين يصفقون لهذا المدير صباح مساء، لتصبح تلك المزايا والخصائص أورادهم اليومية في المكان وتراتيلهم صباح مساء، كون هذا المدير (يزبن) الدخيل، والدخيل هنا هو المهمل الذي يصيب عند صاحب السعادة الفرج، وربما المكانة الجديدة التي تجعل من هذا الدخيل متحفزا لتجاوز قادم في القريب العاجل!

و قبل مراسم التوديع، يهب المنتفعون المقربون منه طالبين الغوث والمساعدة من موظفي تلك الإدارة؛ لعمل حفل يليق بصاحب السعادة، هذا الحفل يتخلله كثير من صور الكذب والنفاق والدجل، لأشخاص مردوا على التدليس على الموظفين والمديرين السابقين، فهذا ينشد قصيدة خالية من الشعر والشعور، وذاك يهدي هدية قد تكون من إحدى الشركات الموردة لبعض التجهيزات، وآخرون يجهشون بالبكاء في لحظة متفق عليها مع مخرج الحفل ليصطادهم وهم باكون على (خشة) هذا المدير، الذي زرع محبته في قلوب مريديه وخاصة الراقصين والرداحين الذين لا يجيدون في تلك البيئات سوى شيئين اثنين، إما تصفيق أو صفاقة، فالأولى للمتنفذين في تلك البيئات، والثانية مشاعر من الشماتة يبدونها لكل مظلوم أسهم ذلك المدير في أذيته ومصادرة أفكاره.

بعد ذلك تترك لصاحب السعادة مساحة ليقول فيها كلمته الأخيرة، قبل أن توارى ذكراه مزابل التاريخ الإداري الحديث، فيبدأ مبتسما ومبسملا محلقا ومحملقا في الحضور، ليشكرهم ويثني على وفائهم وكرمهم المعهود، ويطيل الكلام عن المؤسسة وأدواره البطولية التي قام بها.

ولكونه ماهرا في دس الكلام الذي تجمد عليه الشوارب والجوارب، فيقول في معرض كلمته المهلهلة: «إن الجميل هو البقية الباقية للموظف بعد رحيله، وهذا الجميل لا يضيع عند الله وعند الخيرين أمثالكم» وفي ذلكم رسالة ذك منه لخليفته الذي رشحه من بعده، والبقية التي ستبقى من حاشيته، مفادها؛ أن لا تنسوا الفضل بينكم، وما دفناه معا، هو ما سيثمر في قادم الأيام ويخصب من جديد!

ثم يأتي دور الهدايا التذكارية، وثمنها عادة يكون من الجزية التي يضربها المتنفذون في هذه الإدارات على بقية الموظفين المستضعفين، نظير عدم إيذائهم أو الوشاية بهم لصاحب السعادة الجديد، ويتم تقديم هذه الهدايا مصحوبة بفلاشات المصورين والمصورات، ويكشف صاحب السعادة السابق عن دماثة خلقه وخفة دمه المعهودة عنه، والتي راح ضحيتها كثير من خواصر المنافقين والمتزلفين الذين لا يستطيعون من كثرة الضحك التحكم في مخارج طوارئهم عند سماع (أفيهات) صاحب السعادة وإسقاطاته (البرشوتية) على العاملين والعملاء على حد سواء!

ومن طقوس بعض الخبثاء الراسخين في الدناءة في مثل هذه المحافل والاحتفالات، أن يختص صاحب السعادة السابق بهدية شخصية أمام الجميع، وهذا الإجراء ليس حبا في المدير السابق، بقدر ما هو مغازلة للمدير القادم، ورسالة مفادها لقد كنت الرجل الوفي لسلفكم فما المانع أن أكون الرجل الأوفى معكم، والغريب أن أغلب هدايا الخبثاء تكون مغلفة تغليفا محكما وكبيرة في شكلها ووزنها، وعندما يعود صاحب السعادة إلى بيته فرحا بهدايا الخواص يجدها كتل كرتونية معبأة وبداخلها قطع معلبة لا يتجاوز ثمنها قيمة الورق الذي غلفت به، في تجسيد للعلاقة الكرتونية الهشة التي كانت تربط صاحب السعادة السابق مع الكذابين في إدارته والذين كانوا أهل ثقته ومحل إعجابه وتقديره.

أما حياة صاحب السعادة السابق بعد التقاعد، فقد انقلبت إلى تعاسة في منفاه الاختياري؛ منزله الموحش وحوشه الأوحش، حياته لم تعد صاخبة كالسابق وجواله ما عاد يشن ويرن، ولحيته صارت كثة، وأولاده لا يحبون بقاءه معهم، وزوجته تعايره صباح مساء بفراغه وعوزه وعجزه، على الرغم من استهلاكه المنتظم والمنظم لشتى أنواع المكملات الغذائية والعقاقير المنشطة، التي راح يستوردها من كل حدب وصوب، لكنها ما أعادت له شيئا من عزمه وزعامته الإدارية القديمة، بل إنه لم يعد كفئا ليمارس حياة سوية في مجتمعه وغرفه المغلقة، حتى أصدقاؤه الخلص ما عادوا يتواصلون معه، ونتيجة لذلك صار ينتظر بفارغ الصبر الفواجع الأسرية والنوازل المجتمعية لتكون ملاذه وملجأه لتغيير جوه وإعادة ضبط مزاجه المتعكر منذ أن أصبح في حكم السابق وأحكامه.

وهكذا طويت صفحة هذا المدير ولم يبق له من التاريخ سوى الذكريات، وسم طال عمرك، وكلمة سابقا تسبق اسمه وسمته، عندما يجامل في بعض المناسبات، وكذلك حسرات أحد ثقاته القدامى، عندما لم يشمله التعديل الإداري الحديث، فوجد نفسه خارج تشكيلة صاحب السعادة الجديد، وهو ما دعا هذا الموظف الصغير أن يضع صورة صاحب السعادة السابق كحالة واتسية بكائية، كاتبا تحتها؛ (أشهد أنه فارق الصف رجال)!

alaseery2@