موسى الحالول

تداعيات حرة عن رواية "في انتظار ديسمبر"

الأحد - 12 فبراير 2023

Sun - 12 Feb 2023

في النقد العربي الكلاسيكي كانوا يقولون "المعنى في قلب الشاعر." أما في النظرية الأدبية الحديثة، ولا سيما نظرية استجابة القارئ، فللقارئ دورٌ جوهريٌ في استنباط المعنى من نص الكاتب، بناءً على تجاربه القرائية السابقة. ولذلك، يقال اليوم إن معاني النص تتعدد بتعدد القراء. وهذه الليلة سأقدم معنى واحدًا من بين معانٍ عديدةٍ لرواية "في انتظار ديسمبر."

تتألف الرواية من 22 فصلاً قصيرًا، يبدأ أولها في ديسمبر 2005 وينتهي آخرها في ديسمبر 2009. لكن بين هذين الفصلين لا يسير السرد وفق هذا التسلسل الزمني الخطي، بل كثيرًا ما نجد الراوي يسرد الأحداث بطريقة الفلاش باك ثم يتقدم قليلًا ثم ينخطف السرد خلفًا تارةً أخرى. لذلك ينتاب القارئَ إحساسٌ بأن أحداث الرواية لا تتقدم نحو التصعيد ثم التأزم ثم الذروة ثم انحلال العقدة، بل تراوح مكانها. وبناءً على هذا، أزعم أن بإمكان القارئ أن يقدم أو يؤخر أي فصل على آخر، من دون أن يُحْدِث ذلك خلخلةً في السرد، لأن التشظي هو سمة الرواية الأساسية التي تتداخل فيها الأجناس الأدبية (من رواية وحكاية اعتراف ومذكرات وأدب رحلات وسيرة ذاتية). فالأزمنة والأمكنة متشظية، والأحداث متشظية. بل حتى مشاعر الراوي تجاه فتاة أحلامه التونسية متشظية.

العتبات النصية

العنوان: هو أول عتبة نصية يلج منها القارئ إلى داخل البناء السردي للعمل الأدبي. لكن بما أن فهد الحارثي عَنْوَن روايته "في انتظار ديسمبر" في محاكاةٍ صريحةٍ لعنوان مسرحية صموئيل بِكِت "بانتظار غودو" فيمكن لمن قرأ مسرحية بِكِت هذه أن يتوقع سلفًا نهاية رواية الحارثي ويستنتج أن انتظار بطله سيكون أيضًا انتظارًا عبثيًا. ففي ختام الرواية نكتشف، كما قال نزار قباني، أن "الحب ليس روايةً شرقيةً .... بختامها يتزوج الأبطال،" ذلك لأن أحلام سافرت إلى السويد "ثم ارتبطت بمخرج مسرحي عراقي وأنجبت مولودها الثاني" (66).

الغلاف: تزين الغلافَ الأماميَّ لوحةٌ حمراء بحمرة الدم لشخص يجلس وحيدًا على مقعد من مقاعد الحدائق أو الأرصفة، ويدير ظهره للمُشاهد، ويفرد يديه الاثنتين على أعلى المقعد لا في وضعية استرخاء، بل ترقب وتوتر وربما في وضعية الصَّلْب كما في الأيقونات المسيحية. وهذا يذكرني بقول الشاعر العراقي الراحل مظفر النواب وهو يخاطب دمشق بعد أن عاد إليها كما عاد امرؤ القيس ذو القروح من عند قيصر الروم:



تحت رسمة المقعد يبرز عنوان الرواية – أيضًا باللون الأحمر، كأنما في تناغم مقصود بين اللوحة والعنوان. ثم يعبُر تحت اللوحة شريطٌ، كأنه لُجَّة حمراء، من اليسار إلى اليمين نحو الغلاف الخلفي. ينقطع الشريط هنيهةً – هي مقدار سماكة الكتاب – ثم يواصل مسيره نحو كعب الكتاب حتى يعود إلى نقطة الانطلاق. هنا تكتمل الدائرة، ولعل في ذلك امتدادًا للسرد الذي لا يسير خطيًا، بل في دوائر. على الغلاف الخلفي يتبادل اسم المؤلف وعنوان الرواية موقعيهما. يقفز عنوان الرواية فوق الشريط الأحمر، وتضيع بعض تفاصيله في هذه اللُّجة، بينما يقفز اسم المؤلف تحتها، وتضيع فيها أيضًا بعض تفاصيله. في أعلى الزاوية اليسرى تظهر صورة المؤلف وهو يسند ذقنه بيده اليسرى التي يلبس فيها ساعة كبيرة. قد تستدعي الصورة إلى الأذهان تمثال "المتأمل" للنحات الفرنسي رودان. لا يظهر المؤلف بالزي السعودي التقليدي، بل بملابس أوربية صيفية (غير ملائمة للأجواء الشتوية الديسمبرية التي يوحي بها العنوان). نظراته المصوبة إلى المجهول تشي بأنه أيضًا ينتظر أو يترقب شيئًا، تمامًا كما يفعل ذلك الشخص المجهول الذي يظهر على الغلاف الأمامي. وهذا يقودنا إلى التساؤل: ترى، كم سكب المؤلف من نفسه وتجاربه الشخصية في هذا العمل القصير الجميل المُلْغِز؟

البعد السِّيَرَي للرواية

تُرى، هل الرواية عمل من وحي الخيال الصرف أم أنها تبوح بجانب من تجارب المؤلف نفسه في تونس التي يزورها بصورة دورية يعرض فيها مسرحياته في مهرجان قرطاج؟ فبطل الرواية وراويها أيضًا كاتب مسرحي سعودي في منتصف العمر يطارد فتاة تونسية لعوبًا كالسراب اسمها أحلام.

التناص

تتناص الرواية مع قصيدة الحمى للمتنبي، كما يتضح من المقطعين التاليين:



  • "حين زارتني في جدة لم أتمكن من الحراك. تركتها تتلذذ بتعذيبي حتى الفجر، ثم زرت طبيبًا قضى عليها شكليًا وتركها تسكن داخلي زمنًا. في الرياض نشطت وعاودت هجومها العنيف. حاولت معالجتها ببعض الوصفات الشعبية ففقدت صوتي أيامًا."



  • "في تونس رفضتُ التنازل لها. ظلت تتبعني بصمت في كل مكان أذهب إليه، وكأنها استمتعت بما كنت أستمتع به فطاب لها المقام. أصبح بيني وبينها تعايش سلمي. اليوم تعود لتهاجمني بشراستها المعروفة لمجرد موعد لم يكتمل. إنها حساسة جدًا وناعمة جدًا ولذلك هي تثور كلما أغضبها موقف لا تتحمله" (ص 9).




في هذا المقطع الأخير تذوب الفواصل بين الحمى والمرأة لكأنهما صِنوان. فلا نعلم: هل ما زال الكاتب يتحدث عن الحمى أم عن أحلام؟ أما تراه يتحدث عن حمى الأحلام؟

مازوخية الراوي

يتلذذ الراوي بالحمى والمرض اللذين ينتابانه في تونس كما يتلذذ في معاندة قلبه الذي يهوى أحلام. بيد أن لهذه المازوخية بعدًا جماليًا، فيما يبدو. يقول الراوي في مستهل الفصل الثاني – بعد أن أخلفت أحلام موعدها معه – "في طريق عودتي إلى الفندق كنت محملاً بالكتابة بالوجع" (7). هنا يبدو أن الكتابة لدى الراوي تلد من رحم المعاناة والألم. بل يمكن لنا أن نزعم إن الراوي لم يعشق أحلام من كل قلبه، ولم يكن جديًا في ذلك. وإنما أراد أن يخوض غمار هذه التجربة لكي يتكئ عليها لكتابة "في انتظار ديسمبر."



[1] نص المحاضرة التي ألقيتُها في نادي الطائف الأدبي عن رواية "في انتظار ديسمبر" للكاتب المسرحي فهد بن ردة الحارثي، وذلك في الجولة الأولى من برنامج النادي الجديد "رَقٍّ منشور" (7 فبراير 2023).