عبدالحليم البراك

أكمل بعضهم مسيرة بعض!

الاثنين - 06 فبراير 2023

Mon - 06 Feb 2023

إن الثورات الثلاث التي ظهرت في أوروبا على شكل عصور علمية، أو فلسفية أو حتى أدبية، من عصر النهضة ثم العصر الحديث ثم عصر الحداثة وما بعد الحداثة، انتهاء بالعلم المعاصر، كلها كانت ثورات علمية متكاملة لم تأخذ سمة الفردية إطلاقا.كم هائل من العلم والعلماء، كم هائل من الجامعات ومراكز البحث العلمي، كم هائل آخر من المدارس المتخصصة، ثورة في الصناعة مع ثورة الزراعة مع ثورة في التجارة والملاحة، العلم التجريبي ينطلق هنا بعد انطلاق العصر الديكارتي، فلا يموت فيلسوف إلا ويأتي آخر أعظم منه، ولا يخفت وهج مذهب من المذاهب الفلسفية ويتجاوزه الناس إلا ويبرز مذهب آخر، علماء الطبيعة في تسلسل مستمر واكتشافات مستمرة، وكل واحد منهم يكمل الآخر.

والجامعات لا تظهر جامعة إلا وأخرى مثلها تفتح هنا، وإن كانت الطباعة ثورة في المعرفة فالتكنولوجيا ثورة أخرى، والاقتصاد الذي ظهر ليسطر على العالم اقتصادي كان يتوافق معه حضور الثقافة الأوروبية.

من القرن الـ16 وحتى القرن الـ20 إنجازات مذهلة للعالم تكاد تقطع الأنفاس، فالتاريخ يلهث أمام تفاصيل صغيرة لكنها كثيرة أمام العلم والعلماء في أوروبا وكأنما حرب ألمانيا وفرنسا المذهبية التي قتلت الملايين لم تكن حرب أسلحة فحسب بل حرب علماء وإبداع، فلا فيلسوف ألماني يخرج إلا ويقابله فرنسي آخر، ولا عالم في إيطاليا إلا وآخر في إنجلترا ومن فلسفة إنجليزية إلى فلسفة قارية، من مذهب مثالي في ألمانيا إلى مذهب تجريبي في إنجلترا، ومن ثورة الحداثة إلى ما بعد الحداثة، وكأن العالم في أوروبا على صفيح ساخن، ويكاد الذي يقرأ تاريخ العلم والعلماء والفلاسفة في أوروبا يقول لا يشغل أوروبا إلا العلم والفلاسفة بينما السياسة تدور رحاها، والحرب هي الأخرى تشتعل، فمن آخر أيام محاكم التفتيش إلى حرب الثلاثين عاما إلى الحرب العالمية الأولى والثانية وبين تلك السنوات الثورة الفرنسية فتظن أن الدنيا في أوربا القديمة سياسة لا علم فيها.

وفي جانب آخر مشرق، يخرج علماء الطبيعة وهم يدرسون الحشرات والأحافير والصخور ليقلبوا أوروبا ظهرا على عقب بحديث عن التطور الطبيعي أو نظرية الترقي، فيختلط العلم بالدين، والصحيح بالأساطير والخرافات بالحقائق، فتقوم الحرب بين المسيحية وأنصارها من جهة والعلمانية التي بدأت تطل بوجهها في أوروبا.

لقد كانت أوروبا من خلال ثلاثة قرون أو أربعة معمل موقد عليها بنار لا تهدأ. الاقتصاديون والإقطاعيون يحاولون السيطرة على العالم بعد تردي ممالك إيطاليا ليكتشفوا رأس الرجاء الصالح ويغزوا العالم تحت مسميات الاستعمار والسيطرة ليصلوا للهند والصين آخذين معهم بعض اكتشافاتهم البسيطة التي مكنتهم من السيطرة على تلك الدول عنوة ويصيبهم ما يصيب العالم كله من نكبات اقتصادية وآفات وأمراض وتصاب أوروبا بزلزال عظيم يزلزل الاعتقادات في لشبونة أو مجاعات كبيرة.

وتحصد الإنفلونزا الإسبانية أرواح الناس، ويكتشفون من خلال هذه الأزمات النظريات والثورات الزراعية ليسدوا أفواه الملايين الجائعة كحل لتلك الأزمة.

لقد تضافرت أوروبا كلها في لحظات متقاربة للتكامل بين كل علم و بين كل جهة وأخرى لتخرج أوروبا الآن وتظهر وهي تقاوم شيخوختها من خلال النقد المستمر لمذاهبها واتجاهاتها وتغير قناعاتها الأخرى بعد الأخرى، فتعود للدين بعد أن كانت قد نبذته لكن عدوتها علمانية روحانية، وتعيد الحياة لعلم النفس بعد محاولات أن تخضعه لمنطق العقل أو التجربة ولم تنطبق عليها تلك التجارب لتعرف أن الإنسان يختلف في متغيراته عن أي تجربة معملية أخرى، وتنتقد النظم السياسية والقانون والأخلاق لأن الإنسان كائن متغير وبقاؤه مشروط بالنقد وإعادة الحياة وإعادة ومراجعة مبادئه ومذاهبه لا أن ينكفئ عليها بشكل دوغمائي متكلس.

Halemalbaarrak@