عبدالحليم البراك

لم يكمل مسيرتهم أحد!

الاثنين - 30 يناير 2023

Mon - 30 Jan 2023

عندما نقد الإمام ابن تيمية أرسطو، بل وأبطل ضرورة قياسته، لم يكمل مسيرته أحد، ومات نقد ابن تيمية مدة من الزمن حتى جاءت العصور الأوروبية من بعده لتنقد المنطق الأرسطي، وعندما تفنن ابن خلدون في تأسيس علم الاجتماع، مات - رحمه الله - ولم يكمل مسيرته أحد من تلاميذه، بل اكتفى العرب بالوقوف عند ما كتب ابن خلدون حتى هذا اليوم، مكتفين بالتغني بأمجاده، وعندما شرع ابن رشد في الترجمة والشرح لأرسطو لم يكمل مسيرته أحد من العرب والمسلمين بل ذهلوا بما كتبه ابن رشد وتوقفوا عنده؛ وبدلا من أن يكملوا مسيرته، أكمل مسيرته الرشديون الأوروبيون في القرون الوسطى محتفين بإرثه انتقائيا، لتخرج المدرسة الرشدية الأوروبية.

ونكتفي بهذه الأمثلة، وإلا فإن العلماء الذين وصلوا للوهج العلمي العظيم ولم يكمل مسيرتهم أحد أكثر من يعدوا ويحصوا، وهم حصيلة اجتهاداتهم الفردية كما أن المتأمل لسمات هؤلاء العلماء الثلاثة يجد أنهم جاؤوا في زمن الدويلات والتمزق الإسلامي، وكان الناس مشغولين في صراعاتهم السياسية والاجتماعية عن العلم.

كما يلاحظ المتأمل أيضا في هؤلاء الشيوخ الثلاثة أنهم مهد الإبداعات الفردية للعلماء المسلمين، إذ لم تكن سمة الإبداع الجماعي والمؤسسي بدأت تطل برأسها ممثلة بالجامعات والمؤسسات العلمية وإن كانت المكتبات الإسلامية الكبيرة والجامعات قد بدأت إلا أنها جاءت بأدوار محدودة مثل دار الحكمة وغيرها، ولم تسلم من حرق أو محاربة أو تقويض وتسيس من بعد مؤسسيها!

السمة الأخرى التي يمكن أن نلحظها في سمات العلم الإسلامي والحضارة الإسلامية أن الفتوحات الإسلامية المتوالية جاءت بسرعة البرق، (لم تحتج أكثر من مائة عام لتصل لأوجها من الخليج للمحيط وأكثر من ذلك)؛ لذلك كان التركيز عليها في أول الأمر، ثم استقر الأمر واستقرت الحضارة ما بين الدول الإسلامية الثلاث الأموية والعباسية ثم العثمانية، لكن هذه المرحلة كانت تأسيسية للعلم.ولما بدأ العلم يأخذ منحنى الفلسفة أو نقدها أو التجريب كانت دول الخلافة الإسلامية تميل إلى نهايتها وأفولها ويأفل العلم معها، إذ كانت تلك الدويلات مشغولة باستقرارها وإن كان ثمة علماء أو خلفاء يرعون العلم فإنما هي اجتهادات شخصية لا تحيا إلا بحياة الخليفة وتموت بموته أو حتى بحياة العالم نفسه أو موته.

ولك أن تتخيل لو استمر نقد المنطق الأرسطي كما بدأه ابن تيمية كيف يمكننا أن نتوقع سيتجه العلم وخاصة التجريبي منه في ظل نقد المنطق الأرسطي، وكيف ستكون خارطة أوروبا في العصر الوسيط بدون تبني المنطق الأرسطي وما تلاه من ثورات بسبب هيمنته وتوحشه على العلوم الأخرى.

ونفس التساؤل لو أكمل تلاميذ وأحفاد ابن خلدون علم الاجتماع لما انتظرنا سنوات حتى يأتي أوجست كونت ليعبر عن هذا العلم ويؤسسه بل سيجد نفسه أمام علم مؤسس أكمل طريقه بواسطة أبنائه، وماذا لو تبنى الرشدية أبناء العرب والمسلمين، هل يمكن أن يؤسس لدينا تصالحا فريدا بين الفلسفة والدين منطقيا وعقليا يمكن أن يكون مخاضا حقيقيا لولادة علم التجريب والفكر المثالي العقلي؟

كل هذه الأمثلة وهذه التفسيرات، وحتى الأحلام والتخيلات تقودنا إلى أن نقول بأننا نحتاج دوما لخطط علمية طويلة، لا تعتمد على نتائج آنية، بل تؤسس الأسس ولا تنتظر قطف الثمار الآن، كما نحتاج أن نكمل مسيرات الآخرين لا أن نهدمها لنقيم عليها تجربة جديدة قد تنجح أو تفشل (برغم أن الهدم أحيانا أحد أشكال البناء المختلفة إذا ما كان علميا ومنطقيا) ونحتاج أيضا أن تكون لدينا رؤية محددة واضحة المعالم كما لو كنا نتنبأ بشكل العالم بعد قرن أو قرنين وحتى عشرات القرون اللاحقة إن كانت ثمة رغبة لدى العرب والمسلمين لإعادة ما كانوا عليه ثم الإضافة إليه!

Halemalbaarrak@