على درب زبيدة.. مشينا
الاثنين - 30 يناير 2023
Mon - 30 Jan 2023
يرتبط ذكر السيدة زبيدة بنت جعفر في ذاكرتي بعين زبيدة التي وصل ماؤها جدة بشكل أو بآخر، ثم سمعت بها في مكة إحدى المرات وبقي اسمها هلاميا حتى دخلت الجامعة ووصلتنا قصتها وقصة دربها في مادة الحضارة الإسلامية والتاريخ العباسي وليس بعيدا صلتها بأشهر الخلفاء العباسيين هارون الرشيد. كانت ملكة بغداد بلا منازع أو سلطانتها وهي تجلس إلى جوار الرشيد.. ابنة عمه وأم ابنه الأمين.
لكن لم يخطر ببالي أن أسير يوما على دربها أستحضر سيرتها وأتعقب مآثرها في كل مكان. كان ذلك منذ عامين في أول شتاء كورونا وبعد وصول اللقاح، التحقت بقافلة درب زبيدة التي تنظم ولأول مرة رحلة خلوية للمسير على جزء من خطى الدرب الذي أمرت السيدة زبيدة ببنائه ورصفه والعناية به والإيقاف على خاناته واستراحاته وبركه وآباره منذ 1100 عام على مسافة 1400 كلم، ليصل الحاج من الكوفة إلى مكة المكرمة على أكرم طريق وأكثرها أمنا، وأصبح على مدار القرون مسير الحجيج القادمين من كل أصقاع المشرق ليجدوا فيه طريقا ميسرا مأمونا مخدوما يصلهم إلى الديار المقدسة.
وبعد أن هجر في القرون الماضية، ثم تتبعه بعض الباحثين والآثاريين لدراسته، أخذت هذه القافلة على عاتقها إحيائه بالمسير على جزء منه، فكان ذلك الجزء الذي يمر بمنطقة حائل وكان منها حوالي 460 كلم، هو الذي خصص لقافلتنا في ذلك الشتاء من عام 2021 خلال أسبوعين، استطعت اللحاق بهم في الأيام العشر الأخيرة وقطعت مسافة 360 كلم بمعدل 30-40 كلم يوميا في تحد لكل ما اعتدنا عليه من رفاهية وراحة واتكالية. كانت الأجواء قارسة البرودة مهما أضفنا على الوجار من فحم، فمجرد الالتفات بعيدا بضع سنتمترات تعود جحافل البرد بغزو أطرافنا، لكن المسألة كانت أكثر سيطرة في النهار وحين المشي، حيث كنا نتخفف من ملابسنا الثقيلة شيئا فشيئا ونسلمها للسيارات المارة التي نحفظ أرقامها.
قامت «دروب» بقيادة اللواء متقاعد الدكتور عبدالعزيز العبيداء وفريقه من شباب حائل وعدد من نسائها بتنظيم احترافي لهذه القافلة التي ضمت حوالي سبعين مشاركة ومشاركا وحوالي ثلاثين منظما وخمسة عشر جملا (ركايب) وخيلا، فضلا عن فرق الأمن والإسعاف الطبي البشري والبيطري، والتغذية والنقل والعلاقات العامة والتصوير والتوثيق، برعاية عدد من المؤسسات المهتمة بالفكرة، وعلى رأسها كانت إمارة حائل.
يبدأ يومنا مع أذان الفجر ودوران قائدة وقائد كل مجموعة بإيقاظ مجموعته ليبدؤوا بالتجهز والاستعداد والإفطار وغلق الخيم التي ننصبها ونصكها يوميا بأنفسنا ونسلمها لفريق النقل الذي ينقل المخيم الكبير إلى النقطة التالية من المسير، ومن ثم نحمي وننطلق باتجاه الجنوب الغربي والذي تقف لنا من أجله سيارة مشعلة مصابيحها في أعلى نقطة في الأفق لتقود اتجاهنا فضلا عن المراكب الأخرى التي تراقب القافلة من جميع الاتجاهات وتتابع حركتنا في حال احتاج أحد لشيء أو خرج عن المسار كثيرا أو تأخر قليلا. ونتوقف مرة ونادرا مرتين خلال اليوم للصلاة وتناول القهوة وشيء من الفاكهة ثم نكمل المسير حتى المخيم التالي الذي يكون قد نصب خلال هذه الأثناء. بعد المغرب يبدأ النشاط الثقافي بتقديم تلخيص عن طريق اليوم والمواقع الأثرية التي مررنا عليها وما سوف نمر عليه غدا من علامات مهمة وقد وضعت القافلة عليها لوحات بتفاصيل أسمائها القديمة والحديثة وأهميتها وإحداثياتها، ثم محاضرة يلقيها أحد المشاركين أو المشاركات وفق جدول مسبق، وكانت لي فيها مشاركة حول المرأة في الأساطير العربية، ثم العشاء وبعدها يمكن لمن شاء تناول الدفوف الموضوعة على جنب لمن يتقن أهازيج السامري الحائلي، فكنا نسمع إبداعات عفوية.
مررنا خلال هذه الرحلة على عدد من القرى التي كان أهلها يُذهلون لدى رؤيتنا ويتجمعون على أطراف الطريق يحيوننا وبالطبع يصوروننا.
كان في مدينة المهرجان الأكبر واستقبال نائب أمير حائل لنا بها وتكريمه للمشاركين والرعاة، بل ومشى معنا جزءا من طريق الدخول لفيد. وهي المدينة المتوسطة على طريق الدرب ومقر والي درب زبيدة في العصر العباسي وتحيط بها قلعة بازلتية مهيبة ما زالت تحت التنقيب والمزيد من الاكتشافات، وانتهينا باستقبال فخم في بلدة البعايث، انتقلنا بعدها إلى حائل بالحافلات لتنتهي هذه الرحلة الفريدة في 18 يناير.
التجربة كانت ثرية بأبعاد لا تحصى، فريدة، سريالية، توحدية، وجميلة. خلالها أخذت أتعرف شيئا فشيئا على قدرتي على التحدي والصمود وإرادة التحمل في هذه الأجواء الباردة الجميلة البعيدة عن كل عمران وحضارة إلا من جوال يتلقى إرسالا ضعيفا وفي أماكن أخرى ينقطع كلية. أما المشي لساعات لامتناهية في فضاء لا متناه فكان تجربة فريدة، سريالية، توحدية، مرهقة وجميلة كذلك، فلا غرو أن الصحراء هي موطن المتنسكين والزهاد والرهبان.
مهما أخذت صورا ومهما سجلت من انطباعات لا تكفي لالتقاط تلك المشاعر والأجواء. أما العام التالي فقد كانت له قصة أخرى.. قصة مع الدراجات الهوائية.
لكن لم يخطر ببالي أن أسير يوما على دربها أستحضر سيرتها وأتعقب مآثرها في كل مكان. كان ذلك منذ عامين في أول شتاء كورونا وبعد وصول اللقاح، التحقت بقافلة درب زبيدة التي تنظم ولأول مرة رحلة خلوية للمسير على جزء من خطى الدرب الذي أمرت السيدة زبيدة ببنائه ورصفه والعناية به والإيقاف على خاناته واستراحاته وبركه وآباره منذ 1100 عام على مسافة 1400 كلم، ليصل الحاج من الكوفة إلى مكة المكرمة على أكرم طريق وأكثرها أمنا، وأصبح على مدار القرون مسير الحجيج القادمين من كل أصقاع المشرق ليجدوا فيه طريقا ميسرا مأمونا مخدوما يصلهم إلى الديار المقدسة.
وبعد أن هجر في القرون الماضية، ثم تتبعه بعض الباحثين والآثاريين لدراسته، أخذت هذه القافلة على عاتقها إحيائه بالمسير على جزء منه، فكان ذلك الجزء الذي يمر بمنطقة حائل وكان منها حوالي 460 كلم، هو الذي خصص لقافلتنا في ذلك الشتاء من عام 2021 خلال أسبوعين، استطعت اللحاق بهم في الأيام العشر الأخيرة وقطعت مسافة 360 كلم بمعدل 30-40 كلم يوميا في تحد لكل ما اعتدنا عليه من رفاهية وراحة واتكالية. كانت الأجواء قارسة البرودة مهما أضفنا على الوجار من فحم، فمجرد الالتفات بعيدا بضع سنتمترات تعود جحافل البرد بغزو أطرافنا، لكن المسألة كانت أكثر سيطرة في النهار وحين المشي، حيث كنا نتخفف من ملابسنا الثقيلة شيئا فشيئا ونسلمها للسيارات المارة التي نحفظ أرقامها.
قامت «دروب» بقيادة اللواء متقاعد الدكتور عبدالعزيز العبيداء وفريقه من شباب حائل وعدد من نسائها بتنظيم احترافي لهذه القافلة التي ضمت حوالي سبعين مشاركة ومشاركا وحوالي ثلاثين منظما وخمسة عشر جملا (ركايب) وخيلا، فضلا عن فرق الأمن والإسعاف الطبي البشري والبيطري، والتغذية والنقل والعلاقات العامة والتصوير والتوثيق، برعاية عدد من المؤسسات المهتمة بالفكرة، وعلى رأسها كانت إمارة حائل.
يبدأ يومنا مع أذان الفجر ودوران قائدة وقائد كل مجموعة بإيقاظ مجموعته ليبدؤوا بالتجهز والاستعداد والإفطار وغلق الخيم التي ننصبها ونصكها يوميا بأنفسنا ونسلمها لفريق النقل الذي ينقل المخيم الكبير إلى النقطة التالية من المسير، ومن ثم نحمي وننطلق باتجاه الجنوب الغربي والذي تقف لنا من أجله سيارة مشعلة مصابيحها في أعلى نقطة في الأفق لتقود اتجاهنا فضلا عن المراكب الأخرى التي تراقب القافلة من جميع الاتجاهات وتتابع حركتنا في حال احتاج أحد لشيء أو خرج عن المسار كثيرا أو تأخر قليلا. ونتوقف مرة ونادرا مرتين خلال اليوم للصلاة وتناول القهوة وشيء من الفاكهة ثم نكمل المسير حتى المخيم التالي الذي يكون قد نصب خلال هذه الأثناء. بعد المغرب يبدأ النشاط الثقافي بتقديم تلخيص عن طريق اليوم والمواقع الأثرية التي مررنا عليها وما سوف نمر عليه غدا من علامات مهمة وقد وضعت القافلة عليها لوحات بتفاصيل أسمائها القديمة والحديثة وأهميتها وإحداثياتها، ثم محاضرة يلقيها أحد المشاركين أو المشاركات وفق جدول مسبق، وكانت لي فيها مشاركة حول المرأة في الأساطير العربية، ثم العشاء وبعدها يمكن لمن شاء تناول الدفوف الموضوعة على جنب لمن يتقن أهازيج السامري الحائلي، فكنا نسمع إبداعات عفوية.
مررنا خلال هذه الرحلة على عدد من القرى التي كان أهلها يُذهلون لدى رؤيتنا ويتجمعون على أطراف الطريق يحيوننا وبالطبع يصوروننا.
كان في مدينة المهرجان الأكبر واستقبال نائب أمير حائل لنا بها وتكريمه للمشاركين والرعاة، بل ومشى معنا جزءا من طريق الدخول لفيد. وهي المدينة المتوسطة على طريق الدرب ومقر والي درب زبيدة في العصر العباسي وتحيط بها قلعة بازلتية مهيبة ما زالت تحت التنقيب والمزيد من الاكتشافات، وانتهينا باستقبال فخم في بلدة البعايث، انتقلنا بعدها إلى حائل بالحافلات لتنتهي هذه الرحلة الفريدة في 18 يناير.
التجربة كانت ثرية بأبعاد لا تحصى، فريدة، سريالية، توحدية، وجميلة. خلالها أخذت أتعرف شيئا فشيئا على قدرتي على التحدي والصمود وإرادة التحمل في هذه الأجواء الباردة الجميلة البعيدة عن كل عمران وحضارة إلا من جوال يتلقى إرسالا ضعيفا وفي أماكن أخرى ينقطع كلية. أما المشي لساعات لامتناهية في فضاء لا متناه فكان تجربة فريدة، سريالية، توحدية، مرهقة وجميلة كذلك، فلا غرو أن الصحراء هي موطن المتنسكين والزهاد والرهبان.
مهما أخذت صورا ومهما سجلت من انطباعات لا تكفي لالتقاط تلك المشاعر والأجواء. أما العام التالي فقد كانت له قصة أخرى.. قصة مع الدراجات الهوائية.