ريما رباح

معادلة الغذاء والطاقة!

الأحد - 08 يناير 2023

Sun - 08 Jan 2023

‏كبسولة المستقبل مملوءة بجرعات مكثفة من اللايقين، سنة 2022 شكلت علامة فارقة في التاريخ الحديث، وكما لو أن كوكب الأرض قرر إجراء عملية (تحديث) لنفسه؛ من خلال الشروع في صياغة توازنات ومعادلات وتحالفات وتكتلات جديدة؛ لكنه اختار الطريق الشاق فوضع الأمن الغذائي والطاقي للعالم في محيط لجيّ عاتٍ مجهول الخرائط، فماذا هناك يا ترى؟

‏الأمن الغذائي في بقعة جغرافية ما، يعرف بأنه توافر الغذاء الملائم للمجتمع، حيث يتمتع أفراده بطعام كاف آمن يلبي احتياجاتهم وتفضيلاتهم اللازمة للحفاظ على حياة نشطة وصحية، إنما وفي ظل ما نقشته الذاكرة الحديثة من تداعيات لأسعار المواد الغذائية، سواء بسبب مشاكل داخلية للدول في العقد الماضي أو الأزمة الحالية، حيث تمثل أوكرانيا سلة الخبز للعالم، أظهر الواقع مخاطر الاعتماد على استيراد الغذاء بشكل كلي والتركيز على منطقة واحدة، وبرزت الحاجة الملحة لاعتماد استراتيجية متكاملة لمعالجة القصور في مجال الأمن الغذائي من جذوره، فهل هناك آلية مبسطة؟. الإجابة، كلا، فبينما تمثل التذبذبات السعرية سمة شائعة في أسواق السلع العالمية، إلا أن التقلبات الحادة في أسعار المواد الغذائية تأتي بتحديات ضخمة لصناع القرار قد تبلغ درجة الأزمة في الأمن الغذائي، فهل هذا مشاهد اليوم؟

نعم.. مصنفة كأكبر منطقة مستوردة للحبوب في العالم، تلقت منطقة الشرق الأوسط ارتدادات التأثير الأعلى في قطاعات الأغذية وتفاوتت حدة التبعات، ففي بعض دول شمال إفريقيا والمشرق العربي أدى التضخم في فاتورة الواردات الغذائية لإضعاف الملاءة المالية والقدرة على سداد الديون السيادية، بما أجبرها على اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، وفي المقابل كانت دول الخليج في موقف قوي بسبب المكاسب الجديدة والمستحقة في أسعار النفط مما عززها بقدرة شرائية أكبر وخفف بشكل كبير أثر الارتفاعات التاريخية في أسعار الأغذية، فما الضمان الحقيقي؟

الزراعة هي أس الأمن الغذائي المستدام، والدول المعتمدة على الاستيراد الغذائي بشكل كبير من جهات محدودة في حاجة ماسة لمراجعة استراتيجياتها الغذائية، وفتح المجالات للأسواق الزراعية العالمية. إذن، وفي المقام الأول سيتطلب هذا وضع التدابير اللازمة على المستوى المحلي، خلال التطوير والإصلاح الزراعي لسد الفجوة بين المحصول والمطلوب وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وبالتوازي سيستلزم الاستطراد على المستوى العالمي بالتنويع بعيدا عن تركيز واردات الحبوب من منطقة واحدة، ولا سيما منطقة البحر الأسود؛ فالنظام التجاري المتنوع (تجارة الأغذية متعددة الأطراف) هو مفتاح الاستقرار في الأمن الغذائي للدول.

جدير بالذكر، أن المملكة هي أكبر مصدر للنفط في أوبك وهذا العام تحقق لها أول فائض مالي منذ 10 أعوام، فالعبرة أن (الصحة المالية) سمحت لها بتجاوز التحدي وشراء السلع الغذائية بأي ثمن ودون إجهاد المالية العامة، والكلمة الفصل أن الاستقرار الاجتماعي الأمثل مرتبط بـ (الدرجة صفر من الجوع) ومن هنا تبني الدول الحديثة الاستراتيجية الغذائية الخاصة بها على تأمين (سلة الخبز) أولا ودائما، وإذا كان هذا عن الغذاء فماذا عن الطاقة؟

‏الأمن الطاقي، يمثل أهمية قصوى، فالتوافر المستمر في موارد الطاقة الرخيصة نسبيا هو المحور الحيوي لتشغيل الاقتصادات الحديثة، وعام 2022 أنتج موجات من الصدمات الزلزالية العنيفة في سوق الطاقة، تسببت في نقص التدفقات والإمدادات المعروضة وارتفاع الأسعار ومشاكل اجتماعية على نطاقات واسعة مع حالة من اللا يقين الاقتصادي العالمي، فقد أدت الزيادة في أسعار البترول والغاز إلى ارتفاع التكاليف الإنتاجية وأسعار السلع والخدمات مع التأثير السلبي على سلاسل الإمداد، وبالرغم من قيام بعض الدول باتخاذ السياسات العاجلة للمواجهة، إلا أن الحصيلة النهائية كانت ضخمة، وأولها تدني (القيمة الحقيقية للدخل) ومستوى معيشة الأسر الذي كان أكثر ضخامة في البلدان الفقيرة بتزايد عدد الأشخاص الذين سقطوا في براثن الفقر المدقع.

كما تشير التوقعات إلى إمكانية حدوث تغييرات مستقبلية عميقة كارتفاع معدل التضخم وانخفاض معدل النمو والتي ستؤدي إلى تراجع (كفاءة الاقتصاد العالمي) جذريا على المدى الطويل، وفي الضفة الأخرى يشير علماء اقتصاد البترول إلى أن التاريخ يعلمنا بأن عملية الخروج من أزمات الطاقة لم تكن يوما سهلة أبدا، وأن سوق الطاقة ستتغير هيكلته إلى الأبد، الأمر الذي يبرز ضرورة عملية تسريع الانتقال إلى نظام أكثر استدامة وأمانا في أسواق الطاقة العالمية.. فما الحلول الاستباقية الممكنة؟

‏خسائر العام المنصرم في العلاقات الدولية كانت فادحة وأحيانا صاعقة؛ ففجأة وبشكل متوالية هندسية متسارعة بدأ تفتت العلاقات التجارية العالمية كعلاقات دول الاتحاد الأوروبي ببعضها البعض وعلاقة كل منها مع روسيا على التماثل، الحقيقة الجلية هنا أن دروس وعبر اليوم تنبئ بصراحة عن الأهمية الاستراتيجية لإنشاء (مراكز الأبحاث الوطنية) فالتنمية المستدامة تتطلب رسم (شبكة أمان) وأولها تضمين اتفاقيات إقليمية ودولية مختلفة التوليفات والمستويات ومتعددة المسارات في سبيل وقاية الاقتصاد من الصدمات العالمية المستقبلية.

ومن المعلوم أن العلوم السياسة تركز على منظور السياسات الخارجية، وبناء عليه تكون قراءة المتغيرات ووضع الاحتمالات أس المعادلة الواقعية تجنبا للوقوع في فخ السذاجة السياسية وكما تكون الأنظمة أكثر فاعلية وعقلانية. وفي توطيد لافت لما سبق فإن إحدى أهم النبوءات السياسية ومنذ عدة سنوات كانت تقول: إن (الغرب يجر أوكرانيا اللاهية إلى شفا حرب لا تبقي ولا تذر)، ولكنها لم تؤخذ على محمل الجد، فالغالبية اتخذوا وضع الجمود في القواعد، وارتأوا أن روسيا لن تعتمد إلا الاستراتيجية الدفاعية لا الهجومية، ولكن العكس هو ما حدث وفترة الحرب الباردة انتهت إلى الأبد، وهناك كثير من الدراسات النوعية القائلة إن هذه الأزمة ذات قدرة بالغة وآثار دائمة وبعيدة المدى، وإن (ما بعد حرب أوكرانيا ليس كما قبله) فالتداعيات قد تتخطى الحدود ليس فقط بتعطيل النظام العالمي بل إلى حد (إنشاء نظام عالمي جديد).

إذن، فهذه السنة 2022 تقرع الجرس العالي لدول العالم لـ(الاستيقاظ) من السبات، وتبدو لعين الرائي كما لو أن المجهول الكبير أرسل إلى مجموعتنا الكوكبية صفارة تحذير ومفاد رسالته (انتباه.. نظام العولمة في خطر)!. ويتساءل العقل: (ما الدولة التي ستسبق باقي العالم في الخروج من الأزمة الاقتصادية في عام 2023)؟!

RimaRabah@