بين المبلغ والسامع!
الاثنين - 02 يناير 2023
Mon - 02 Jan 2023
من قصص التراث في الجزيرة العربية أن رجلا حاصره قطاع طريق حتى قبضوا عليه، ولما وقع في أيديهم عرف أنهم من أعداء لهم قاطنة شمال مضارب قبيلته، وكانوا ينوون الإغارة على أهل بلدته وأبناء قبيلته.وبينما هو تحت قبضتهم مر بعض الرعاة الغلمان من قبيلته، فتظاهر قطاع الطريق بأنهم من العابرين في السفر، وأنهم من أهل الجنوب - بينهم وبين هذه القبيلة ميثاق سلام -، حتى لا يحدثوا ريبة في انقطاع الغلمان عن أهل بلدتهم عصر ذلك اليوم، لتكون غارتهم على البلدة في منتصف الليل والرجال نيام.
فما كان من الرجل المعتقل الحصيف إلا أنه أعطى الغلمان شيئا من التمر الذي كان أعطاه إياه قطاع الطريق، وألح عليهم بأخذه معهم وأكثر من ذلك، فأخذ الغلمان التمر، ولم تكن لدى الرجل المقبوض عليه فرصة أن يتحدث للغلمان عن حاله، فقطاع الطريق يحيطون بهم من كل جانب.
ولما رجع الغلمان لديارهم، وكما هي كل ليلة يستمعون لأخبار العرب عبر كل وسيلة، وواحدة منها ما ينقله الغلمان من مشاهدات في رحلة الرعي كل يوم (الذي يبدو أن أخبار الرعاة هي تويتر بحساب هذه الأيام، فهو أسرع ما يأتي بالأخبار)، فأخبر الرعاة رجال البلدة عن هذا الرجل الذي ألحّ عليهم بأخذ التمر من بين الرجال الغرباء، فقال رجل حصيف آخر أعطوني التمر، فلما رأى أنه من تمر الشمال، قال استعدوا للحرب، فما التمر من تمر بلدتنا ولا من بلد الجنوب، والرجال كذبوا على الغلمان لسوء أضمروه في أنفسهم فكذبوا من أجله.
فاستعدت البلدة للحرب في أول الليل، فلما جاء آخر الليل وبدأت الغارة لم تتمكن تلك الشرذمة القليلة من قطاع الطرق من النيل من المدينة بسبب حصافة الأول وذكاء الثاني وأمانة النقل لدى الغلمان.وهذه هي قصة العلم والناس، فبعضهم ليس له من العلم إلا النقل، ويبقى فن النقل الرائع هو النقل بأمانة متناهية وكما أرادها صاحبها من غير زيادة أو نقص وهذا من كمال الأدب والأمانة، فالناقل غير الأمين المدّعي في نفسه القدرة على الإضافة زيادة أو نقصان، وهو يسيء للعلم، لهو أسوأ من يمكن أن نقول عنه بأنه فاسد في نفسه مفسد للعلم معه.
أما الجهة الأولى في العلم فهو ذكاء مصدّرِ العلم، فإن ذكاء الرجال وبناء على ظروفه الراهنة اكتفى بالترميز في رسائله لقومه، وهو أقصى ما يمكن أن يصرح به، فحفظ بذكائه بلدته وأهل قومه، وقوة ذكائه تجلت في ثلاثة أشياء كوّنت عقله المتقد، وهو صناعة الرمز (إعطاء تمر من مصدر جالب للشك، وفاضح لكذب الفريق).
ثم جاء ذكاؤه في اعتماده على ذكاء من بعده، فالذكاء كالفريق يصبح في غاية كماله لأن الذكاء يتكامل، ولا يقوم الإنسان وحده ولو كان ذكيا خارقا، ثم إن النقطة الثالثة والأخيرة، هي أن الخطوة الواحدة للخلف ليست عيبا إن كان ثمة خطوتان للأمام، فالمحصلة خطوة واحدة للأمام.
ومن أبرز ما دل عليه هذا الأمر هو أنه تخلف عن قتال ومعاندة قطاع الطرق، وأذعن لطلبهم بكتمان السر عن الغلمان، ولو صرح للغلمان بحاله، لقتل وقتل الغلمان معه أو على أقل تقدير تم احتجاز الجميع، وفي كلا الحالتين لم تنج قبيلتهم.
ويقابله قوة التحليل وذكاؤه المتقد من قبل بني قومه الذين اكتشفوا الخطر القادم من تلميحة عابرة، وليس هذا فحسب، بل سرعة البديهة واكتساب عامل الوقت لصالحهم ثم اتخاذ إجراء عاجل كل هذه صبت في وعاء الذكاء، ولعل أقل الحظوظ في الثلاثة هم الغلمان، وبرغم أهميتهم البالغة في درء خطر الاعتداء.
وأخيرا، وفي الأثر: «رب مبلغ أوعى من سامع»، ورب مدرك فاهم، أوعى من حافظ مستحضر، ولو كان العلو للسامع لكان هذا الباحث المدعو «قوقل» أذكى ما خلق الله لكمية المعلومات في محركه (عقله) لكنه لا يفعل إلا أن يضعها بين يديك أتفيدك فتكون أوعى من سامع، أم تمر عليك مرور الكرام فلا تعدو كونك (قوقل) على هيئة إنسان!
Halemalbaarrak@
فما كان من الرجل المعتقل الحصيف إلا أنه أعطى الغلمان شيئا من التمر الذي كان أعطاه إياه قطاع الطريق، وألح عليهم بأخذه معهم وأكثر من ذلك، فأخذ الغلمان التمر، ولم تكن لدى الرجل المقبوض عليه فرصة أن يتحدث للغلمان عن حاله، فقطاع الطريق يحيطون بهم من كل جانب.
ولما رجع الغلمان لديارهم، وكما هي كل ليلة يستمعون لأخبار العرب عبر كل وسيلة، وواحدة منها ما ينقله الغلمان من مشاهدات في رحلة الرعي كل يوم (الذي يبدو أن أخبار الرعاة هي تويتر بحساب هذه الأيام، فهو أسرع ما يأتي بالأخبار)، فأخبر الرعاة رجال البلدة عن هذا الرجل الذي ألحّ عليهم بأخذ التمر من بين الرجال الغرباء، فقال رجل حصيف آخر أعطوني التمر، فلما رأى أنه من تمر الشمال، قال استعدوا للحرب، فما التمر من تمر بلدتنا ولا من بلد الجنوب، والرجال كذبوا على الغلمان لسوء أضمروه في أنفسهم فكذبوا من أجله.
فاستعدت البلدة للحرب في أول الليل، فلما جاء آخر الليل وبدأت الغارة لم تتمكن تلك الشرذمة القليلة من قطاع الطرق من النيل من المدينة بسبب حصافة الأول وذكاء الثاني وأمانة النقل لدى الغلمان.وهذه هي قصة العلم والناس، فبعضهم ليس له من العلم إلا النقل، ويبقى فن النقل الرائع هو النقل بأمانة متناهية وكما أرادها صاحبها من غير زيادة أو نقص وهذا من كمال الأدب والأمانة، فالناقل غير الأمين المدّعي في نفسه القدرة على الإضافة زيادة أو نقصان، وهو يسيء للعلم، لهو أسوأ من يمكن أن نقول عنه بأنه فاسد في نفسه مفسد للعلم معه.
أما الجهة الأولى في العلم فهو ذكاء مصدّرِ العلم، فإن ذكاء الرجال وبناء على ظروفه الراهنة اكتفى بالترميز في رسائله لقومه، وهو أقصى ما يمكن أن يصرح به، فحفظ بذكائه بلدته وأهل قومه، وقوة ذكائه تجلت في ثلاثة أشياء كوّنت عقله المتقد، وهو صناعة الرمز (إعطاء تمر من مصدر جالب للشك، وفاضح لكذب الفريق).
ثم جاء ذكاؤه في اعتماده على ذكاء من بعده، فالذكاء كالفريق يصبح في غاية كماله لأن الذكاء يتكامل، ولا يقوم الإنسان وحده ولو كان ذكيا خارقا، ثم إن النقطة الثالثة والأخيرة، هي أن الخطوة الواحدة للخلف ليست عيبا إن كان ثمة خطوتان للأمام، فالمحصلة خطوة واحدة للأمام.
ومن أبرز ما دل عليه هذا الأمر هو أنه تخلف عن قتال ومعاندة قطاع الطرق، وأذعن لطلبهم بكتمان السر عن الغلمان، ولو صرح للغلمان بحاله، لقتل وقتل الغلمان معه أو على أقل تقدير تم احتجاز الجميع، وفي كلا الحالتين لم تنج قبيلتهم.
ويقابله قوة التحليل وذكاؤه المتقد من قبل بني قومه الذين اكتشفوا الخطر القادم من تلميحة عابرة، وليس هذا فحسب، بل سرعة البديهة واكتساب عامل الوقت لصالحهم ثم اتخاذ إجراء عاجل كل هذه صبت في وعاء الذكاء، ولعل أقل الحظوظ في الثلاثة هم الغلمان، وبرغم أهميتهم البالغة في درء خطر الاعتداء.
وأخيرا، وفي الأثر: «رب مبلغ أوعى من سامع»، ورب مدرك فاهم، أوعى من حافظ مستحضر، ولو كان العلو للسامع لكان هذا الباحث المدعو «قوقل» أذكى ما خلق الله لكمية المعلومات في محركه (عقله) لكنه لا يفعل إلا أن يضعها بين يديك أتفيدك فتكون أوعى من سامع، أم تمر عليك مرور الكرام فلا تعدو كونك (قوقل) على هيئة إنسان!
Halemalbaarrak@