فهد إبراهيم المقحم

قائد بالغترة!

الأحد - 01 يناير 2023

Sun - 01 Jan 2023

ربان السفينة هو المعول عليه - بعد توفيق الله - في وصول الرحلة إلى مبتغاها سالمة غانمة؛ فلا بد له أن يعرف وجهتها، والسبيل إلى نجاتها، مستثمرا كل الإمكانات المتاحة، ومستعينا بالمهارات اللازمة لقيادة فاعلة نحو دعم فريقه وإخراج أفضل ما لديهم لتحقيق الأهداف المنشودة.

لكن ما هو حال السفينة حين يكون قائدها منغمسا في تفاصيل المطبخ وما ينتجه من طعام، أو يقضي جل وقته في عقد اللقاءات بالركاب والتغني بالمميزات والنجاحات، أو مهووسا بالتقاط الصور وإسدال الأذنين للقيل والقال، أو منشغلا بتراشق الكلمات مع قيادات الرحلات الجوية والبرية؟! غالب الظن أن تفقد السفينة بوصلتها وتخطئ مرساها، إن نجت وبقت على قيد الحياة! وللأسف هذا حال بعض المنظمات!

أظهرت دراسة أجرتها شركة غالوب الاستشارية (Gallup) أن 82% من القادة يفتقرون إلى المهارات والقدرات اللازمة لقيادة الآخرين بنجاح، ووفقا لدراسة حديثة (2021 Global Leadership Forecast) شارك فيها أكثر من 15 ألف قائد حول العالم، وجد أن 11% فقط من المنظمات تتمتع بالجاهزية في سد الاحتياجات المستقبلية من المناصب القيادية! كما كشفت شركة الأبحاث العالمية (Gartner) أن 45% من المنظمات فشلت في إيجاد قيادات مناسبة خلفا للقيادات السابقة؛ ولذا أعلن المنتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum) أن 86% من المشاركين في الاستطلاع حول الأجندة العالمية يؤمنون بأن العالم اليوم يواجه أزمة حقيقية في إيجاد القيادات التنظيمية.

وعلى المستوى الوطني، كشف صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء أن 80% من الوزراء في عام 2015 كانوا غير أكفاء، وأن الصف الثاني من القيادات في الوزارات شبه معدوم، مما جعله عاما صعبا تطلب العمل الجاد نحو إعادة بناء فرق العمل وإيجاد الممكنات والمقومات التي تسهم بشكل فاعل في تحقيق الطموحات والتطلعات.

من فضل الله علي أن شاركت قبل فترة في برنامج مكثف ومخصص للقيادات يقدم من قبل جامعة هارفارد العريقة، وقد استمعنا فيه إلى تجارب فريدة وثرية لقيادات منظمات وشركات عالمية، ولأن من تزكية العلم نشره، سأذكر هنا ملخصا لأبرز ما جاء في هذا البرنامج:

- يحتاج القائد عند تولي منصبا جديدا إلى ثلاث ركائز أساسية في بداية مشواره:

1 - التعرف الجيد على فريق العمل، واستكشاف مكامن القوة والضعف لديهم، ومن يعول عليه في نجاح رحلته المقبلة.

2 - تطوير الكفايات الذاتية، فالخبرات السابقة للقائد وإن كانت مهمة، إلا أنها لا تكفي في المرحلة المقبلة، بل يحتاج القائد إلى التعرف على مجال عمل المنظمة وأهدافها وبرامجها وأبرز التحديات التي تواجهها، من خلال القراءة العميقة للخطة الاستراتيجية، والاستماع الجيد لفريق العمل وأبرز الشركاء والعملاء، والاطلاع على التقارير والنتائج السابقة، والاستفادة من الخبرات المتراكمة للمنظمة أو للجهات المماثلة.

3 - بناء الثقة، فالقائد لن ينجح إلا بوجود فريق متميز وشغوف ومتماسك، وهذا لن يتأتى إلا من خلال تعزيز التواصل الفعال مع قيادات الفرق ومنحهم الثقة بقدراتهم ودعمهم لتحقيق أهدافهم.

ومن الخطأ الفادح أن يتخذ القائد قرارات استراتيجية دون المضي قدما في هذه الركائز، مع الأخذ في الاعتبار إمكانية العمل بشكل متواز بينها، واتخاذ ما يلزم من خطوات محدودة وطارئة يصعب تأجيلها.

يحتاج القائد في عمله إلى أن يلعب ثلاثة أدوار رئيسة: 1) الموجه، 2) المعماري، 3) المحفز، وتزداد أهمية إتقان هذه الأدوار كلما زاد حجم المنظمة واتسع نطاق عملها، ولذا يحتاج القائد إلى تطوير مستمر لإمكاناته وقدراته من خلال التعلم واليقظة والاستماع الجيد إلى من حوله لاستيعاب كافة الاحتياجات والتفاعل الإيجابي مع المتغيرات والمستجدات.

الدور الأول للقائد أن يعمل موجها ومرشدا كالمنارة (Leader as Beacon) التي تكون علامة بارزة ومحط أنظار العابرين لمعرفة الاتجاه الصحيح، ولإتقان هذا الدور يحتاج القائد أن يمارس ثلاثة أنشطة رئيسة:

1 - القراءة المستمرة للمحيط الخارجي للتعرف على المعطيات المؤثرة والفرص الثمينة بهدف التفاعل معها والاستجابة لها من خلال إجراء التحديثات الدورية على الخطة الاستراتيجية.

2 - التواصل الفعال مع العاملين من خلال تسليط الضوء على الاتجاه الاستراتيجي المحدث والتأكيد المستمر على مسار المنظمة وأولوياتها وأبرز مستجداتها، ومناقشة ما يواجهون من صعوبات وتحديات.

3 - تبني المهارات والجدارات اللازمة للمرحلة الحالية وزرعها في الفرق العاملة ليتمكنوا من المضي قدما وفق خارطة الطريق المتفق عليها.

الدور الثاني للقائد أن يعمل كالمهندس المعماري (Leader as Architect) وذلك من خلال الإجابة على سؤالين مهمين:

1 - كيف يمكن بناء منظمة فاعلة وممكنة للفرق العاملة في تحقيق أهدافها؟ ويشمل بناء المنظمة جزأين رئيسين: المكونات التنظيمية (الهيكل واللوائح والأنظمة، والعاملون، والثقافة والسلوك)، والشروط التي يجب على القائد تعزيزها بشكل دؤوب (الكفاءة، والحافزية، والتعاون).

2 - ما هي الممكنات والقدرات التي يحتاجها فريق العمل لتحقيق المنجزات المنشودة، وكيف السبيل إلى تحقيق ما ينقصهم؟ وهنا نتحدث عن جانبين مهمين: تحديد النتائج المستهدفة والتحقق من بلوغها، وتوفير الممكنات والقدرات اللازمة بهدف دعم فرق العمل لتحقيق تلك النتائج.

الدور الأخير للقائد أن يكون محفزا للتغير والإبداع (Leader as Catalyst)، فالتغيير طبيعة حتمية وسنة كونية استجابة للمتغيرات والمستجدات المحيطة بالمنظمة، والإبداع صنوان التربع على القمة وضمان الديمومة في تحقيق المنجزات والتغلب على التحديات.

من عادتي عند حضور برنامج أو لقاء مثمر أن أنقل بعضا من فوائده لمن أجالسه، تعزيزا لرسوخها في الذهن وتزكية للعلم وإيفاء لحق المجالسة، ولذا كنت في أحد المجالس أورد بعض الفوائد التي اقتنصتها من هذا البرنامج القيادي، وفي كل مرة أذكر فائدة أجد من يشتكي من فقدان تلك السمة لدى من يعمل معه وما يعانونه من مآس وتخبطات، ولا أخفيكم سرا لم يتجاوز هذا حد توقعي، إلا أن ما لفت انتباهي هو أحد الجالسين والمستمعين في هدوء وصمت، فسألته والأمل يحدوني، لم نسمع منك أي تعليق أو تندر؟ فأرسل لنا جوابا ضاحكا، وشر البلية ما يضحك، إذ قال: مديرنا فاق كل التوقعات، فلا شيء مما ذكرت إلا ويعمل بخلافه!

خلصت دراسة نشرت في (American Journal of Pharmaceutical Education) وأخرى من جامعة إلينوي الأمريكية إلى أن 30% من سمات القيادة قد تكتسب بالفطرة والوراثة، في حين أن 70% من السمات القيادية تكتسب من خلال التدريب والممارسة، ولذا يجب على القيادات إن أرادوا النجاح وتحقيق التطلعات أن يعملوا بجد في اكتساب سمات القائد وإتقان أدواره الثلاثة الرئيسة، وإلا باتوا كالقائد بالغترة والهندام!

moqhim@