شاهر النهاري

لا تستهزئوا بذاكرة السمكة

الاثنين - 26 ديسمبر 2022

Mon - 26 Dec 2022

الإنسان هو الناطق، والمُصَنِف، وهو من يطلق الأحكام على بقية المخلوقات، ومن ينتقد جميع الخصال والصفات والمميزات، حتى ولو كان غير بعيد عنها، أو كان يفعل أكثر منها، وأنقح.

ذاكرة السمكة، تجعلها تقع عرضة لنفس خدعة السنارة، حينما يقوم الإنسان بتغيير ملامحها، بما يضعه على السن القاتل، من سمكات صغيرة، أو حبار، أو مغريات بالرائحة، واللون، والحركة.

فتعود السمكة في عمرها القصير لروح المغامرة والتجربة غير المدروسة، ولا تَعتبِرُ أو تتوب بشكل يدل على تعلم الأخطاء، وتلافيها في مستقبل العمر.

والبشر كذلك، ولكن بمسافات وعي قد تطول حبال سنانيرها، حسب نسبة العمر، وكم وكيف ومن الذي غافل وخدع، فيلتقط الطعم مرات ظنا بأن النتيجة ستختلف، وكل ذلك جزء من الذاكرة، التي لا تكتمل.

متوسط ثلاثة أيام كافية ليخرج بعدها الإنسان الطبيعي من أي فكر، أو هم، أو حزن، أو خيبة أمل، أو كآبة، وقد تطول قليلا، أو تقصر، حسب ما يلوح حوله من مغريات تلتمع في عينه الساهية، فينقض عليها بفم لا يشبع، وعين لا تميز، وخاطر يستدرجه المجهول، ووعي يختصر المسافات، ويدعي قدرة التمييز، ويكتب التجدد، والقدرة، وهو لما يزال في شيم مداعبة خيوط الغيب المدللة.

كم ينجرح القلب، ثم يعود يبحث عما يداوي جراحه، بسرعة النهم، وكم ينخدع الشخص، ويعتبر ذلك من الماضي، وأنها آخر الأحزان، وكم يرى بعينه الواسعة، أنها فرصة تختلف عما سبق، لمجرد حاجته لما يسعد هواجسه، ويهدئه بالقرب، حتى ولو كان أبعد ما يكون عن السكينة والثقة، والحب، ولكنها مرحلة طمع أخرى تلوح له، لقمة سائغة، تُبتَلَع، وتملأ الأيام بدسمها، الذي يسد النفس عن غيرها، مع أنها لقمة مشهيات تزيد سيلان اللعاب، وتدفع الغاوي لتجريب قضم ومضغ وبلع الموجود، ولو كان حجرا.

في حياتنا مغريات، ولنا أطماع، قد تكون مستطاعة، وقد تكون من المستحيلات، ولكنها وحسب صحتنا، وهممنا، ومتطلبات عيشنا، وأحلامنا، نتسرع ونخطئ، وقد يكون الخطأ قاتلا، إذا لم نعتبر من شفافية الحبل القديم، والسن الحاد، والخروج بفم مشقوق إلى يابسة نجهل أبجدياتها، وتضمحل فيها فرصتنا، بالعودة مرة أخرى، لوسط تعودناه، واستنشقناه، وكتبنا فيه الكثير من حياتنا، التي يهددها الجديد بالنفاذ، بعين صعقة جامدة، وثلاجة أو مقلاة، نعرف بعدها أننا أصبحنا جزءا من الماضي المأكول، المذموم.

الذاكرة نعمة، والنعمة القصوى قدرتنا على استحضارها، عند الحاجة وفي الأفراح، وعند الشدائد، بشكل حريص معتدل، يعرف كيف ينتقي، ومتى يستعيد، وأين يثق، وكيف يضحك، ولماذا يدمع، ومن يفارق، ومن يصطحب، ومن يستحق الوفاء، والحب، ومن يظل بعيدا عن العين والقلب، ومن يجب أن نتنبه لما يقول، ويفعل، كوننا غير مدركين لزوايا انقضاضه، ومدى ضرره، وثمن تسليمه جزءا من الروح، أو الجسد، أو الممتلكات، التي تَعِبنا في تحصيلها، فيقوم بسلبها بقلب لا يرحم، ولا يفي، ولا يتذكر.

الذاكرة، أيقونة عمر ثمينة، نحملها في مكنوننا، ونظل نتحكم بصيانتها، وحفظها، قدر بعدنا عن السنانير، ولكنا، ومهما طالت الحبال، سنكتشف يوما، أنها تتفتت، وأن الغشاوة تحط على أعيننا، وتتركنا نفغر أفواهنا غفلة، ونبتلع آخر طعم، مهما كان شبيهه قد خان ذائقتنا، وبصم على شفاهنا بندبة غدر عميقة.

shaheralnahari@