هند علي الغامدي

هل نحن متعصبون للغة العربية؟

الأربعاء - 21 ديسمبر 2022

Wed - 21 Dec 2022

إن الحرص على اللغة العربية، وصحة تعلمها وتعليمها وإتقانها ليس من قبيل التعصب، ولا لأنها أفضل اللغات، أو لأنها لغة أهل الجنة، أو لغة آدم - عليه السلام - كما ورد في بعض الروايات، وإنما لأنها لغة القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة أولا، لغة الصلاة؛ بمعنى أن المسلم لا يمكن أن يصلي بغير اللغة العربية الفصحى، ولا حتى بالعامية واللهجات العربية، لا يمكن أن يقرأ الفاتحة إلا باللغة العربية الفصحى، ولا يمكن أن يقرأ أيّ سورة ولو كانت من قصار السور - وهي ما يفترض بأي مسلم عربي أو غير عربي أن يكون حافظا لها - إلا بالفصحى، فما بالنا بقراءة القرآن تعبدا، وقراءته عبادة - كما نعلم - لا يمكن أن تكون إلا بالعربية الفصحى، لا يمكن أن يقرأه الإنسان بلهجته؛ فيحول الثاء مثلًا إلى سين، أو الذال إلى دال، أو الضاد إلى ظاء، لا يمكن، ولا يمكن أيضا أن يغير إحدى الحركات؛ فيستبدل الفتحة بالضمة أو الكسرة بالفتحة مثلا، ولو كان المعنى مفهوما أو واضحا، لا يمكن أن يغير مكان الهمزة المتوسطة في قراءة إحدى آياته أو كتابتها لتكون على واو وحقها أن تكون على السطر، ولو كان المعنى مفهوما، لا يمكن أن يستبدل كلمة من عاميته بكلمة من القرآن وإن كانت تؤدي المعنى نفسه، وعليه؛ فالحرص على اللغة العربية الفصحى لا علاقة له بالتعصب، مع أنه يحق لنا أن نتعصب لنشر لغة القرآن الكريم؛ الدستور العالمي الذي أرسل الله به نبيه رحمة للعالمين، والذي وصفه الله في عدة مواضع في كتابه الكريم بأنه عربي، ومع هذا، فيجدر بنا ألا نخوض في هذا الجدل الذي ينتهي عادة لدى المتعصبين بازدراء اللغات الأخرى والتقليل من شأنها، مع أن الله - سبحانه وتعالى - وضح في كتابه الكريم أن اختلاف الألسنة آية من آياته.

نحن هنا نريد أن ننتبه إلى خطورة تلك الدعوات التي تدعو إلى عدم الاحتفال بتعليم قواعد اللغة العربية، والتسامح والتساهل في تعليمها، والتنادي بتبسيطها على اختلاف المقصود بالتبسيط بين من يريد أن يمسخ هويتها، ومن يرمي إلى تبسيط وتحديث طرائق تعليمها؛ فالأول مرفوض، والثاني مطلوب،- وإلى الاستغناء عن حركات الإعراب بحجة أن الكلام مفهوم دون حركات، أو لأنها لا تؤثر على وضوح المعنى وفهمه؛ حتى في القرآن إلا في مواضع محددة كما وهِمَ البعض!

ونريد أن نقول أيضا إن هناك فرقا بين الحديث عن الفصحى والحديث عن العامية؛ اللهجات واللغة اليومية الدارجة التي لا مجال فيها للضبط والحركات، ولا يطلب ذلك فيها عاقل؛ فالفصحى لو لم تكن قد قعدت منذ القرن الأول الهجري؛ لوصل إلينا القرآن الكريم محفوظا مضبوطا بحركاته وسكناته ومفرداته وتراكيبه؛ كما أراد الله سبحانه وتعالى له حين تكفل بحفظه، ولظلّت اللغة العربية لغة مقدسة خاصة بالقرآن الكريم؛ لا نفهم قواعدها ولا نحسن الحديث بها؛ لأننا لا نعلم لمَ اختلفت حركاتها؟ لمَ كانت الفتحة هنالك؟ والكسرة هناك؟

والضمة هنا على الكلمة نفسها في مواضع مختلفة؟ وبالتالي لن نستطيع أن نحاكيها؛ فنتكلم باللغة العربية الفصحى أو الفصيحة، ولن تكون في الذاكرة الجمعية العربية ومعجم اللسان العربي المختزن في عقولنا، ولكن الله-سبحانه وتعالى- قيّض لها من يضع قواعدها، ونحوها، وصرفها، ويدرس فصاحتها وبلاغتها وأوجه بيانها وإبانتها، ويحاول أن يكشف بعض جوانب إعجاز القرآن من خلالها، حتى تصل إلينا اليوم مكتملة الأركان، وتظل لساننا إلى يوم الدين بإذن الله؛ نتدبر من خلالها القرآن، ونحاول أن نستوعب أسرار إعجازه وبيانه.

إن تعليم اللغة العربية الفصحى وعلومها وتعلمها وإتقان مهاراتها ليس ترفا؛ بل هو ضرورة قصوى وملحة، ولاسيما للأطفال والشباب الذين هم السياج الذي يحمي اللغات ويضمن بقاءها قوية متسيدة، وتتعاظم الضرورة في هذا العصر؛ عصر العولمة الثقافية واللغوية، وتصبح في منتهى الخطورة لدى أبنائها الذين نشؤوا بعيدا عنها؛ لأي سبب من الأسباب؛ خطورة تتمثل أول ما تتمثل في حرمانهم من امتلاك ناصية اللغة التي يقرؤون بها القرآن الكريم ويستوعبون معانيه وأحكامه، ويتدبرونه، ويقيمون بها صلواتهم، ويفهمون بها سنة نبيهم، ويرددون بها أذكارهم وأدعيتهم القرآنية والنبوية.

كما أنَّ إتقان اللغة العربية لا يعني الكلام بها فقط-وإن كان هذا مطلوبا -؛ بل لابد من فهم أشكال تراكيبها وأنواع أساليبها وغايات كلٍّ منها؛ ففي القرآن الكريم معان لا يمكن فهمها إلا بفهم أساليب العرب وعاداتهم اللغوية؛ لأن القرآن أنزل بلغتهم متحديا لهم معجزا إياهم ببلاغته وفصاحته وهو ما تميزت به لغتهم، وبرعوا فيه؛ بل إن المفتي لا يمكن أن يتصدر للإفتاء ما لم يكن متقنا العربية وقواعدها، حاذقا في إعرابها وحركاتها وسكناتها، ووصلها ووقفها، وتقديمها وتأخيرها، وألوان بلاغتها، وأساليب بيانها، عالما بكلام العرب، ومذاهبهم في أقوالهم وتعبيراتهم وأمثالهم؛ لأن القرآن نزل بلغتهم، ومن يريد أن يفهمه ويفهم السنة الشريفة ويتصدر للإفتاء فعليه أولا أن يفهمهما، ولن يكون ذلك إلا بفهم لغتهما، والمعاني القريبة والبعيدة لها، وأثر اختلاف التراكيب وحركات الإعراب في المعاني والأحكام، والكلام في هذا واسع ومتشعب، ولكن خلاصته أن تعليم العربية والحرص على إتقان الناشئة إياها مسؤولية عظيمة تقع على عاتق المختصين في العربية والمسؤولين عن أولئك الناشئة، وهذا مع التأكيد على أهمية اللغات الأخرى التي يجب تعلمها؛ لا للتمكن من تبليغ الرسالة العالمية فقط، وإنما لأن طبيعة الحياة والمرحلة الحضارية التي نعيشها اليوم تقتضي ذلك، لكنه لا يجب أن يؤثر على جودة وإتقان تعليم اللغة العربية وتعلمها أبدا.

أما الجانب الآخر لتعلم العربية وتعليمها وإتقان مهاراتها؛ فهو جانب لا يقل أهمية وقداسة عن الجانب الأول؛ بل يسير متكاملا معه، وهو جانب الهوية؛ فاللغة هوية، ولا هوية دون لغة؛ ولا عز دون هوية « فكم عزَّ أقوام بعزِّ لغات»، وقد اكتسبت هذه اللغة العزة الأبدية بالقرآن الكريم؛ فاكتسبنا نحن العزة بالقرآن ولغته، ولا أقل من أن نحافظ عليها ونسلمها لأبنائنا قوية صافية كما هي، ولا نحرمهم حقهم في هذا المكتسب الذي ربما لن يعرفوا قيمته في سنواتهم المبكرة، وسيحملون والديهم وأهليهم ومجتمعهم مسؤولية التفريط في إكسابهم لغة دينهم ووطنهم، علاوة على أنها المقوم الأساسي لتشكيل هويتهم وحمايتها من الاضطراب وسط هويات ممسوخة وتحديات لا قبل لهم بها فرضتها العولمة على العالم أجمع، لكن أول من يمكن أن يغرق فيها أبناؤنا أطفالا وشبابا، وهم من يتطلع إليهم الوطن للحفاظ على هويته والنهوض به؛ ليتصدر المقدمة ويكون الوجه المشرِّف للعرب والمسلمين أجمعين.